تؤكد متابعة الاختراقات التكنولوجية التي تحققها شركات ناشئة صغيرة أن عهد الطائرات التي لا تخلق أي انبعاثات، قد لا يكون حلما بعيد المنال وأن تلك الشركات قد ترسم مستقبل صناعة الطيران، بعيدا عن دور الشركات العملاقة مثل بوينغ وإيرباص. فرغم القناعة الشائعة بأن الوتيرة الحالية لتطوير البطاريات تحتاج لعقود كي تصل إلى تسيير طائرات عملاقة لمسافات طويلة، إلا أن الاختراقات العلمية المفاجئة يمكن أن تقلب تلك التوقعات. النقلة النوعية حدثت العام الماضي حين عرضت شركة إيفييشن Eviation في معرض باريس للطيران أول طائرة كهربائية يمكن أن تقتحم الاستخدام التجاري وسرقت معظم الأضواء والاهتمام الإعلامي في المعرض. وقد استوحت الشركة اسم الطائرة من قصة “أليس في بلاد العجائب” وأطلقت عليها اسم “أليس” في خروج لافت عن تقاليد صناعة الطيران، التي تهيمن عليها الحروف والأرقام مثل طائرات إيرباص “أي 320” أو طائرات بوينغ 737 ماكس المنكوبة. بالطبع هناك طائرات كهربائية كثيرة لكنها بعيدة عن مواصفات الطائرة أليس، التي يمكنها أن تحمل 9 ركاب والتحليق على ارتفاع 10 آلاف قدم لمسافة تصل إلى 1046 كيلومترا وبسرعة 481 كيلومترا في الساعة. يقول المظلي السابق عمر بار يوهاي المؤسس المشارك لإيفييشن إن فكرة تأسيس الشركة بدت جنونية حين راودته مع شريكه الطيار السابق أفيف تزيدون في إحدى أمسيات شهر نوفمبر من عام 2016. قبل ذلك وفي ذات العام كانت الطائرة سولار امبلس 2 التي تعمل بالطاقة الشمسية قد أكملت رحلة تاريخية حول العالم انطلقت من أبوظبي وعادت إليها، لكنها لم تكن تحمل في كل مرحلة سوى أحد طيارين اثنين تناوبا على قيادة الطائرة. لكن لم يكن أحد يتخيل حينها أن تصل الطائرات التي لا تقذف أي انبعاثات كاربونية إلى تخوم الطيران التجاري في المستقبل المنظور، إلى أن حلقت تلك الطائرة في سماء باريس بعد 3 سنوات. حلم أم سراب؟ يقول تريستان كندي في تقرير في موقع فايس إن ما ساهم أيضا في لفت الانتباه إلى الطائرة، تصميمها الفريد بنوافذها الكبيرة وخطوطها الأنيقة وتصميمها الذي يوحي بتشابه مع السيارة “جاكوار إي تايب”. لكنه يضيف أن ما سلط الانتباه على الطائرة في الواقع هو أنها ليست مجرد نموذج تجريبي، بل طائرة يمكن أن تقتحم السوق على أسس تجارية عملية. وقد أعلنت الشركة أن شركة طيران أميركية قدمت طلبا للحصول على العشرات من الطائرة أليس، الأمر الذي يعني أن حلم الطيران الكهربائي بدأ يتحقق بالفعل. ومع ذلك هناك إجماع على طلبات طائرات بوينغ وإيرباص سوف تواصل الهيمنة على صناعة الطيران التجاري في المستقبل المنظور. الشركات الكبرى ضاعفت استثماراتها في بحوث الطيران الكهربائي إلا أنها لا تراهن عليها كثيرا في الوصول إلى منافسة طائرات الوقود التقليدي، التي تنقل المئات من الركاب ومئات الأطنان من الحمولة لمسافة آلاف الأميال. لكن رغم قلة اهتمام الشركات المصنعة الكبرى وشركات الطيران بمستقبل الطيران الكهربائي، إلا أن ذلك الحلم يتقدم بخطوات ثابتة على طريقه الطويل. وبافتراض أن تمضي خطوات الإنتاج الواسع للطائرة أليس في مسارها المرسوم وكذلك الإجازات التنظيمية اللازمة، فإنها ستدخل الخدمة التجارية في عام 2023. وهناك طائرات كهربائية أخرى لنقل الركاب تجاريا قد تدخل حتى قبل ذلك الموعد. وتعمل شركة ماغنكس MagniX التي تصنع محركات الطائرة أليس مع شركة طيران هاربور الكندية لاستبدال محركات الوقود التقليدي في أسطولها من طائرات دي هافيلاند بيفر العائمة بمحركات كهربائية. ويقول المدير التنفيذي لشركة ماغنكس روي غانزارسكي إن المهمة لم تكن سهلة لأن تلك الطائرات تبلغ من العمر 62 عاما وتنطلق من المياه وهو ما يمثل تحديا بالنسبة للمحركات الكهربائية، ومع ذلك نجحت الطائرة في التحليق فوق فانكوفر في ديسمبر 2018 بالمحركات الكهربائية الجديدة. خلايا الوقود الهيدروجيني في بريطانيا حصلت شركة ناشئة تدعى زيرو – أفيا على منحة قدرها 2.7 مليون جنيه إسترليني من الحكومة في سبتمبر الماضي لمواصلة تطوير طائرة بلا انبعاثات، لكنها لا تعمل بالبطاريات بل بخلايا وقود الهيدروجين. ويراهن مؤسس الشركة فاليري ميفتاخوف على أن هذا المصدر البديل للوقود سيساعد الشركة في إنتاج طائرة تحمل 20 راكبا وتطير لمسافة 920 كيلومترا بسرعة أكبر من الطائرات التي تعمل بالبطارية. لكن هذه الاختراقات المثيرة للإعجاب، لا تخفي محدوديتها مقارنة بالطائرات الحالية التي تعمل بالوقود التقليدي، والتي يمكنها الطيران لمسافات تزيد على عشرة أضعاف وتحمل المئات من الركاب. وتكمن العلة في الوزن لأن تحليق طائرة كبيرة وتزويدها بالطاقة لمسافة طويلة يتطلب بطاريات ثقيلة تمنعها من التحليق من الأساس، في حين أن نسبة القدرة إلى الوزن في خلايا الوقود الهيدروجيني لا تزال بعيدة عما هو مطلوب لتزويد طائرة كبيرة بالوقود. ويفسر ذلك جزئيا قلة الرهان الاستثماري على التكنولوجيا الجديدة من قبل بوينغ وإيرباص، رغم تمويل بعض المشاريع الواعدة. لكن غانزارسكي، يعارض هذا الرأي ويستحضر تجربة كوداك، التي اخترعت الكاميرا الرقمية، لكنها فشلت في متابعتها لأنها بقيت أسيرة اعتمادها على عوائد أفلام الكاميرا التقليدية. وإذا كانت الشركات المصنعة الكبرى ترى أن التكنولوجيا الجديدة الصديقة للبيئة ليست جيدة بما يكفي للسوق، فإن الشركات الناشئة ترى أن السوق أصبح جاهزا لانقلاب جديد. وتستند إلى بديهيات اقتصادية بسيطة، وهي أن تكلفة شحن الطائرات الكهربائية أرخص بكثير من الوقود التقليدي، وهو ما يقلل من أهمية أن الطائرة أليس تستطيع حمل 9 ركاب وليس المئات عند النظر إلى تكلفة نقل كل راكب. مزايا الطائرات الصغيرة يقول بار يوهاي إن الطائرات الكهربائية يمكن أن تبقى أصغر بكثير لكن مجدية اقتصاديا حين يتعلق الأمر بتكاليف التشغيل وأسعار التذاكر. ويضيف أن استخدام طائرات أصغر قد يمنح شركات الطيران ميزة جديدة، بعد أن تعود الناس على السفر جوا لمسافات طويلة لكنهم ينفقون عدة ساعات للسفر برا بين المدن والضواحي بالفعل. وهنا تكمن فرصة لشركات الطيران لتشغيل أعداد كبيرة من الرحلات الأقصر والأرخص باستخدام الطائرات الكهربائية دون أن يشعر الركاب بالذنب بسبب الانبعاثات. ويبدو تشغيل الآلاف من الطائرات الصغيرة التي تعمل بالبطاريات لنقل مجموعات صغيرة من الركاب من الباب إلى الباب، أفقا واقعيا، مثل خدمات أوبر لنقل الركاب، وهو سيناريو فعلي حيث تعمل الشركة للوصول لتقديم هذه الخدمة. وفي شهر مايو من العام الماضي، نجحت شركة ألمانية تدعى ليليوم في إطلاق نموذج أولي لما سيكون في النهاية طائرة إقلاع عمودي ذات خمسة مقاعد يطلق عليها “التاكسي الجوي”. لكن انتشارها بين أسطح المباني والبيوت وسط المدينة، سيتطلب قفزات تقنية إضافية وانتظار وضع لوائح تنظيمية، إضافة إلى شبكة متكاملة من البنية التحتية الجديدة. في المقابل فإن البنية التحتية اللازمة لتشغيل طائرات كهربائية مثل أليس، موجودة اليوم بالفعل. ويقول بار يوهاي إن هناك 20 ألف مطار محلي في الولايات المتحدة لوحدها، لا يستخدم معظمها إلا لطيران الهواة. ويضيف أن 12 ألفا منها تصلح لتشغيل الطائرة أليس، في حين أن ألفي مطار فقط تستخدم حاليا لتشغيل الطائرات التجارية. وبذلك يمكن لشركات الطيران مضاعفة رحلاتها 6 مرات مع الحفاظ على أسعار التذاكر على حالها. لكن الطائرات الكهربائية تواجه عقبات أخرى مثل القلق الذي تثيره بطاريات الليثيوم أيون منذ أزمة انفجار بطاريات هواتف سامسونغ عام 2016. أما استخدام الوقود الهيدروجيني في الطيران فلم يتصدر عناوين الأخبار منذ كارثة هيندنبورغ في ألمانيا عام 1937 حين احترقت سفينة منطاد عملاقة لنقل الركاب، رغم أن معايير السلامة تحسنت كثيرا منذ ذلك الحين. حتمية التحول رغم كل العقبات تبدو شركتا إيفييشن وزيرو – أفيا واثقتين من أن طائرتيهما ستحلقان فوق جميع الحواجز لتصلا إلى تسليم طائرات لشركات طيران تجارية بحلول عام 2023 وبعد ذلك لن تكون هناك حدود للطموحات. وتشير التقديرات إلى حجم أعمال الطائرات عديمة الانبعاثات يمكن أن يصل خلال سنوات إلى نصف تريليون دولار سنويا، وهو ما يزيد الاستغراب من عدم مراهنة إيرباص وبوينغ عليها. ويقول محللون إن التحول في صناعة الطيران أمر حتمي، خاصة أنه يستمد دعما كبيرا من الهواجس البيئية التي تتضاعف ضغوطها على شركات الطيران لكونها من أكبر ملوثي الهواء في ظل تنامي النقل الجوي بسرعة كبيرة. ويقول بار يوهاي إن “جميع الصناعات الكبيرة الراسخة تحتاج دائما إلى شركة صغيرة ناشئة تفاجئها وتركلها لتصحو على حتمية التغيير. وآمل حقا أن نكون تلك الشركة”.
مشاركة :