وداعاً ناش: عقل مضطرب حاربَ نفسه وأبدع معادلات لرياضيّات المستحيل

  • 6/2/2015
  • 00:00
  • 7
  • 0
  • 0
news-picture

على بُعد شهور قليلة من فيلم «آلة المُحاكاة» Imitation Game (إخراج مورتِن تيلدم، بطولة بنديكت كومبرباتش- 2014)، التي عرضت حياة عالِم الرياضيات الإنكليزي آلان تورينغ (مبتكر مفهوم الذكاء الاصطناعي الحديث)، توفي عالم الرياضيّات الأميركي العملاق جون ناش. تجمع بين الاثنين أشياء كثيرة، أبرزها التفوّق المُبدع في الرياضيّات، والشغف الفائق بتفكيك الشيفرات، بمعنى صنع معادلات رياضيّة تستطيع أن تتعرف إلى ألغاز الشيفرات المختلفة. يجمع بينهما أيضاً أن الاضطراب النفسي يظهر في سير مبدعين كثر، ما أطلق دوماً نقاشات لا حصر لها عن العلاقة بين الإبداع والاضطراب النفسي. ويرد إلى الذهن بسرعة أن عبقري الموسيقى أماديوس موتسارت عانى من مرض نفسي عصبي مركّب هو «غيل دي لا توريت» Giles De La Tourette Syndrome، ولعله ساهم في الوفاة المبكرة لعبقري الموسيقى. وفي مطلع القرن الماضي، رسم مؤسّس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد معادلة «سهلة» نسبيّاً لرسم تلك العلاقة، محورها الجنس الذي كان دوماً نقطة مركزيّة في تفكير فرويد. وبالاختصار، يمثّل الإبداع قوّة جنسيّة جرى «تصعيدها» لتصبح تفوّقاً، بدل أن تحقّق نفسها في مسارات جسديّة. لعل المثال الأشهر لديه كان العبقري الإيطالي المتعدّد الإبداعات ليوناردو ديفنشي. وارتكز فرويد إلى تحليل تلك الابتسامة الشهيرة في لوحة الـ»موناليزا» ليتوصّل إلى أن ديفنشي كان يعاني ميلاً جنسيّاً مثلياً مكبوتاً، وأدّت آليات نفسيّة إلى تصعيد تلك الشهوة الضخمة المضمرة لتصبح عقلاً متفوّقاً! ولم يكن الميل الجنسي المثلي لدى آلان تورينغ «مُضْمَراً» تماماً، بالأحرى فإن عدم قدرته على الاستمرار في إضمار مثليته الجنسيّة في بريطانيا حقبة الخمسينات من القرن العشرين، أوصله إلى الانتحار. غنيّ عن القول إن بريطانيا حينها كانت تنظر إلى المثليّة الجنسيّة بوصفها اضطراباً نفسيّاً، إضافة لكونها جريمة اجتماعيّة. وبلغت من شدّة القسوة في النظرة إلى المثليّة الجنسيّة ان بريطانيا نسيت الفضل الكبير لتورينغ في تفكيك شيفرة الجيش النازي «إينغما»، ما ساهم بصورة كبيرة في هزيمة الرايخ الثالث. في ذلك السياق، يربط التحليل الفرويدي بين البارانويا (وهو المرض النفسي الذي عاناه ناش) والمثليّة جنسياً. وفي المقابل، لم تتصرّف السلطات الأميركيّة ضد ناش، الذي تدين له بأن معادلاته المبتكرة ساعدت في رسم مقاربات استراتيجيّة لحلف الأطلسي ممثّلاً للمعسكر الغربي، في مواجهة جيوش «حلف وارسو» الذراع العسكرية للمعسكر السوفياتي. واستطراداً، نظّمت «وكالة الأمن القومي» معرضاً في العام 2010، عن إنجازات جون ناش. وظهر في المعرض تصميمه لآلة تستخدم في تفكيك الشيفرات العسكريّة أيضاً، وهو ما يذكّر بالآلة التي اختراعها تورينغ. وفي المقارنة بين مساري ناش وتورينغ، يبرز أيضاً أن تورينغ تزوّج عن غير حب ولا قناعة، وسرعان ما تحطّم الزواج بالطلاق والهجران. وسار قلب ناش في مسار مختلف، إذ أحب إليشا التي صمدت إلى جانبه طيلة فترة اضطرابه النفسي الذي لازمه طويلاً. وصمدت إليشا إلى جانب ناش في حربه ضد «عقله» المضطرب والمملوء بالأفكار البارانويّة المختلفة، وتزوجّته في عام 1957، ما ساعده في الحرب ضد ما يحدث اضطراباً في دواخل عقله. وافترقت إليشا عنه بالطلاق، كي تساعده على مكافحة مرضه. وعندما خفّت أعراض ما يعانيه، عادت إليشا إليه في عام 1982، وبقيت إلى جانبه إلى آخر لحظة من حياته، لأنهما توفيا سويّة في حادث سيارة في 23 أيار(مايو) 2015. مجرّد رواية بصريّة تذكيراً، يستهل فيلم «عقل جميل» Beautiful Mind (إخراج رون هاورد، بطولة راسل كراو وجنيفر كوناللي- 2001) بمشهد ممتع. إنها بداية العام الدراسي في عام 1948، في «جامعة برنستون» الأميركيّة، حين تجتمع نخبة «الأدمغة المتعطشة للعلم»، وفق عبارة تتردد كثيراً في الفيلم. وتدور الكاميرا لتعطي أجواء نخبة علميّة، في أداء بصري متين. ففي موطن العلماء، يكون المبدعون السابقون أسطورة حيّة يقلّدها الجميع. أحد «علماء المستقبل» اسمه «نيلز»، يظهر حاملاً غليوناً ليرسم صورة من صار لاحقاً عالِم الفيزياء الشهير نيلز بور الذي تقاسم جائزة «نوبل» في الفيزياء مع آينشتاين، وأشرف على مشروع القنبلة الذريّة. في المقابل، ينطوي تقليد هؤلاء الأساطين على قسوة، إذ يعلم الجميع أن الإبداع هو في الفرادة، لا تقليد الآخرين. وعلى الجميع العيش مع ذلك التناقض والعمل بمقتضاه. وتستدرج الكاميرا صورة شخص يبدو نافراً من اللحظة الأولى. ويظهر كراو، وعيناه تتطلعان دوماً إلى «مكان آخر»، كأنما تبحثان عن مجهول لا يعرفه إلا صاحبهما، إذ يحسّ بأنه الأفضل، ولا يقلّد أحداً، بل يهجس بأنه سيبدع ما لم يصل إليه عقل قبله. وفي المقابل، بدا كراو مبدعاً في أداء دوره. وبدا تصويره عيش العالِم المريض هلوساته الفوّارة، وكذلك صراعه معها، على قدر كبير من الإمتاع والقوة. والمفارقة أن السيرة «الواقعيّة» لناش لا تعطي تلك الهلوسات البصرية وزناً كبيراً. هناك هلوسّات مركّبة تصوّرها المشاهد التي تجمع كراو مع الممثل إيد هاريس الذي أدى دور بارشر، المفترض أنه من «سي آي أي». وينسّق الاثنان شأن الدفاع عن البلاد ضد العملاء الشيوعيين الذين يتبادلون رسائل سريّة مع موسكو. وينجح كراو في فك تلك الشيفرة الخفيّة التي تبث في مقالات تبدو عادية في الجرائد. ويقبِل كراو على العمل بقوة، قبل أن يسقط في يد الأطباء النفسانيين الذين يقولون له أن بارشر، على غرار «صديقه» هيرمان، مجرد هلوسات مركّبّة في عقله المضطرب. ويدخل المريض في صراع مع المرض، وكذلك مع العلاجات المتسلطة. ونراه يقاوم «صدمة الإنسولين»، وهو علاج كان يستعمل للـ»شيزوفرينيا» على أساس أن حرمان الدماغ من السكر يحضّه على ترك الهلوسات التي تشبه حال «العيش في حلم مستمر». ويقاوم المريض أيضاً على العلاج بالصدمة الكهربائيّة، مُصِراً على الوصول إلى خلاصه بنفسه.

مشاركة :