تجربة البرازيل... عندما تكون مصلحة الوطن هي العليا

  • 1/28/2020
  • 01:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

عانت البرازيل ولمدة 45 عامًا (1930-1975) من ركود اقتصادي مدمر وفقر مدقع أفقر أكثر من 70% من الشعب البرازيلي، وبطالة مرتفعة شملت جميع فئات المجتمع ومديونية ضخمة أفسدت المجتمع وأصبح الفرد البرازيلي لا يمُت للحياة بأي صلة، وعملة ميتة أرخص من التراب والفضلات المنزلية. كانت البرازيل بلد فاشل بكل ما تعنيه الكلمة لم يعرف النجاح إلا في كرة القدم.كان يحكم هذا البلد نظام عسكري بالقوة وتهديد السلاح، مدعوم من رجال أعمال فاسدين يساندون النظام لمصالحهم الخاصة، لم يكترث النظام بخطورة الأزمة المالية الاقتصادية ولا باتساع رقعة الفقر والجهل وبمصير بلاده، تمحور اهتمامه فقط في كيفية استمراره كنظام يحكم البلد حتى وإن كانت الكلفة موت الملايين من شعبه. وكلما نهض الشعب مطالبًا بحقوقه وبتحسين وضعه المعيشي واجهته السلطة بالتخوين والتهديد والعنف والقوة، نفى منهم العلماء والكتّاب والأطباء والأكاديميين وقتل ما تبقى لديهم من طموح وكل معاني السلمية، وبمرور السنين تحول البرازيليون إلى شعب ميت غير منتج مدمن مخدرات وأكثر شعوب العالم إجرامًا. دخل البلد في حرب أهلية مدمرة حرقت الأخضر واليابس وانهار الاقتصاد عن بكرة أبيه وأطاحت بالفاسدين الأثرياء المساندين للنظام قبل أن تطيح بالنظام نفسه.توالى بعد ذلك عدد من الحكام المدنيين الذين حاولوا واجتهدوا في إعادة بناء الدولة وإصلاح ما خربه العسكر، نجح بعضهم وفشل البعض الآخر إلى أن جاء رجل من أسرة فقيرة كان مهددا بالموت جوعًا، هو الرئيس لولا دي سيلفا. كانت أمام هذا الرئيس تحديات جمة ومهمة واحدة وهي إعادة بناء البرازيل من خلال عملية إصلاح اقتصادية متقنة. اعتقد الأغنياء أنه سينتصر للفقراء الذين انتخبوه وأوصلوه للرئاسة، بينما ظن الفقراء أنه سينتقم لهم من رجال الأعمال الذين أفقروهم ونهبوا ثروات البلد وساندوا الحكم العسكري الظالم طوال الحقبة السوداء التي مرت بها البرازيل. وضع دي سيلفيا أمام نصب عينيه المصلحة العامة لبلده وشعبه وتجاهل الضغط الشعبي المطالب بمحاكمة السياسيين والذين عبثوا في الأرض فسادًا. تبنى رؤية مستقبلية واستراتيجية لتنفيذ الرؤية. حاول أن يرضي ويتقرب للجميع فظهر بأنه نصير الفقراء وقريبا من رجال الأعمال، فالبلد في اعتقاده يحتاج إلى بقاء كل مؤسسة تنتج وتخلق فرص عمل وكذلك المليارات والشركات والمصانع التي يمتلكها الأثرياء داخل البلد، كما أنه من الضروري أن يطمئن الفقراء بأن كل أنواع الفساد والظلم والاحتكار قد انتهى بلا رجعة وأن الجميع سواسية أمام القانون والعدالة هي التي تحكم البلد فلا واسطة ولا نهب ولا احتكار للمناصب ولا شهادات مزورة. فسن القوانين والتشريعات اللازمة لمكافحة الفساد وفتح الأبواب لعودة المهاجرين والمنفيين. اقتصاديًا ولإصلاح الوضع تبنى سياسات السوق الحر بحذر واعتدال وعمل على بناء اقتصاد موجه للداخل في الأساس. بدأ بسياسة تقشفية صارمة جدًا فأوقف الدعم والترف والمهرجانات والحفلات الوطنية التي اعتبرها لا تتناسب وارتفاع المديونية وفرض الضرائب على المواطنين، وفي الوقت نفسه أضاف بندًا في الموازنة العامة اسماه «الإعانات المعاشية المباشرة»، بحيث تدفع الدولة حوالي 735 دولارا لحوالي 64 مليون فقير لمساعدتهم في تحسين مستواهم المعيشي. كما قام بخفض الفوائد على القروض المصرفية مما شجع رجال الأعمال على الاستمرار والتوسع في مشاريعهم الاستثمارية، فكانت سياساته محل تقدير وترحيب من قبل جميع فئات المجتمع.رفع الضرائب على الجميع باستثناء الفقراء، فأصبح الأثرياء ومتوسطو الدخل ينفقون على الفقراء دون أي اعتراض. شجع الفقراء والعاطلين على الانخراط في العمل في القطاعات المختلفة بعد أن تم إلغاء العوائق والموانع أمام المستثمرين في القطاعات الزراعية والتجارية والصناعية والسياحية. ونجح بذلك في إقناع أكثر من مليوني مهاجر بالعودة من الخارج، استقطب مليوني مستثمر أجنبي، ورفع حجم الاستثمارات المباشرة بقيمة تتجاوز 200 مليار دولار، خفض المديونية العامة، وقام بتغيير العملة الكوروا زيرو والتي فقدت قيمتها إلى الريال البرازيلي الذي ازدادت قيمته مع تحسن الوضع الاقتصادي.اقتصاد البرازيل الآن هو سابع أكبر اقتصاد في العالم بحسب الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، وأكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، وأحد أكبر الاقتصادات سريعة النمو في العالم بمتوسط بمعدل نمو سنوي يتجاوز الـ5%، ويتوقع لها أن تصبح خلال العقد القادم احد أكبر الاقتصادات الخمسة الكبرى في العالم. في عام 2011 أصبح صندوق النقد الدولي الذي رفض إقراض البرازيل في عام 2002 مديونًا لها بما قيمته 14 مليار دولار. إنه وبسبب عظمة ومتانة اقتصادها فإن حلفاء البرازيل يطالبون الآن بضمها لمجلس الأمن. هذا الإنجاز الكبير لم يكن إلا ثمرة نجاح برنامج إصلاحي اقتصادي طموح اعتمد على رؤية اقتصادية ثاقبة تتناسب وموارد الدولة وقابلة للتنفيذ. إنها تجربة اقتصادية رائعة تستحق الدراسة لأخذ الدروس والعبر منها. 

مشاركة :