لقد كتب الكثير عن اعتزام إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إعلان الخطة التي طال انتظارها لتحقيق السلام بين إسرائيل والفلسطينيين. لن أعود إلى سرد جملة الانتقادات الموجهة إلى هذه الخطة؛ بل لأنني سأركز عوضا عن ذلك على أوجه التشابه الصادمة والمريبة بين «صفقة القرن» التي أعلنتها سلطات واشنطن من ناحية ووعد بلفور المشؤوم من ناحية ثانية. وعلى الرغم من أن «صفقة القرن» أطول وأكثر صلفا من وعد بلفور المشؤوم فإنها تعكس المنطق ذاته الذي نجده طي وعد بلفور، لكن هناك بطبيعة الحال بعض أوجه الاختلاف بينهما. لقد جاء وعد بلفور على شكل جملة مركبة تضم 67 كلمة بالتمام والكمال وقد جاء نصها كالآتي: الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1917معزيزي اللورد روتشيلديسرني جدا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:«إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى».وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح.المخلصآرثر بلفورأما صفقة القرن التي بلورها الرئيس دونالد ترامب تحت عنوان: «السلام من أجل الرخاء»، فهي تحتوي على أكثر من مائة صفحة تشمل الملاحظات والملاحق التفصيلية والخرائط والرسوم البيانية. تشترك خطة ترامب ووعد بلفور المشؤوم في سمة رئيسية، ألا وهي صلف القوى الامبريالية؛ فكلتا الوثيقتين تفوح منهما رائحة العنصرية حتى أنهما تكرسان تفوق شعب معين وتعتبر أن حقوقه أكثر أهمية من حقوق الشعب الآخر الذي ينظر إليه على أنه في مرتبة دنيا. بطبيعة الحال تخفي صفقة القرن ووعد بلفور المشؤوم من قبل اعتبارات سياسية لا تخفى على أحد.في القرن العشرين، أدرك مؤسسو الحركة السياسية الصهيونية انهم لن يستطيعوا تحقيق طموحهم المتمثل في إقامة وطن قومي للشعب اليهودي ما لم تدعمهم قوة امبريالية عالمية.. فقد راحوا في البداية يطلبون ود السلطان العثماني ثم القيصر الألماني بل وقيصر روسيا. عندما اتضح لهم أن بريطانيا العظمى ستكون مستعدة لمشاركتهم في المؤامرة ركزوا كل جهودهم على كسب دعمها من أجل تحقيق طموحهم والوصول إلى مآربهم. في الحقيقة لم يجد الآباء الأوائل المؤسسون للحركة الصهيونية صعوبة كبيرة في إقناع البريطانيين، الذين اعتبروا أن الدور الاستعماري اليهودي المحتمل قد يسهم في تحقيق طموحاتهم في منطقة الشرق الأوسط. كانت الحكومة تأمل من خلال إصدارها وعد بلفور المشؤوم أن تكسب تأييد كبار القادة اليهود المتنفذين في الولايات المتحدة الأمريكية حتى يدعموا قوات الحلفاء في حربهم ضد القوى الأخرى المعادية لهم في الحرب العالمية الأولى أو الحرب الكبرى. عندما أصدر ذلك الوعد المشؤوم فقد تعهد اللورد بلفور بدعم إنشاء وطن قومي لليهود من أجل ضمان مصالحهم في شرقي حوض البحر الأبيض المتوسط، متناسيا أن الأرض التي وعد بمنحها لليهود لإقامة وطن لهم ليست ملكه حتى يفرط فيها. كانت بريطانيا في تلك الحقبة قوة امبريالية، وكانت تملك القوة اللازمة لكي تفعل ما يعنّ لها وتتصرف حتى في ما لا تملكه. لذلك فهي لم تظهر أي اهتمام بحقوق السكان المحليين على الأرض التي وعدت بمنحها لليهود لكي يقيموا فوقها وطنهم القومي.ورد في رسالة اللورد بلفور ما يأتي: «لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين»، غير أن تلك الجملة كانت مجرد حبر على ورق ولم تدون لكي تؤخذ على محمل الجد. عندما شدد الرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ولسون على ضرورة أخذ طموحات وحقوق سكان فلسطين بعين الاعتبار اضطر اللورد بلفور إلى الإفصاح عن حقيقة نواياه؛ إذ إنه قال بصريح العبارة: «في فلسطين لم نقترح أي شكل لاستشارة السكان ومعرفة رغباتهم... الصهيونية أكثر أهمية من رغبات 700 ألف عربي يسكنون هذه الأرض».إن صلف القوة الامبريالية وعنصريتها ولامبالاتها بحقوق الفلسطينيين والاعتبارات السياسية الداخلية كانت العوامل الجوهرية التي كانت وراء صدور إعلان بلفور المشؤوم. نفس تلك العوامل والاعتبارات هي التي دفعت إدارة الرئيس دونالد ترامب لإعلان «صفقة القرن». تنطوي «صفقة القرن» مع ذلك على عنصر إضافي قد يجعلها مريبة أكثر حتى من وعد بلفور المشؤوم، إنه الخداع الصارخ. على غرار وعد بلفور المشؤوم «أعطى» دونالد ترامب أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، بما في ذلك كل «القدس الشرقية»، وهو بذلك يعطي ما لا يملك. في ظل إدارة دونالد ترامب تعتبر الولايات المتحدة الأمريكية نفسها قانونا بعينه وأنه يمكنها أن تفعل ما يعنّ لها. لقد ربطت إدارة ترامب ما بين الحقوق الفلسطينية والهواجس الأمنية الإسرائيلية لتضع بذلك العبء على الفلسطينيين من دون أن تضع أي عبء على الإسرائيليين، تماما مثلما فعل وعد بلفور المشؤوم، فترامب يعتبر بذلك أن حاجيات إسرائيل وإنسانية الإسرائيليين أكثر أهمية من «العرب الذين يسكنون في تلك الأراضي القديمة». لقد اختار دونالد ترامب أن يعلن خطته في هذا التوقيت بالذات حتى يحول الأنظار عن محاكمته الجارية في مجلس الشيوخ، كما أنه وجه الدعوة إلى أشرس أنصاره من اليهود والمسيحيين الإنجيليين، وهو يؤكد بذلك أن الاعتبارات السياسية الداخلية هي الأكثر أهمية في حساباته. لعل ما يجعل «صفقة القرن» أكثر عنجهية من «وعد بلفور» أنها تتجاهل التاريخ والتطورات التي طرأت تباعا خلال القرن الأخير: حربان عالميتان مدمرتان، وظهور مفهوم القانون الدولي والمعاهدات الدولية التي تسعى لاستيعاب الدروس من هذه الحروب وتنظيم العلاقات بين الدول والشعوب والأمم في زمن الحروب التي أزهقت أرواح عشرات الآلاف وحولت الملايين إلى مهجرين ولاجئين وخلفت المرارة لدى أولئك الذين هجّروا من ديارهم وجرّدوا من حقوقهم الشرعية وباتوا يعيشون تحت نير الاحتلال. يتوهم دونالد ترامب أنه يستطيع من خلال «صفقة القرن» أن ينحي التاريخ جانبا ويمزق كل القوانين والمعاهدات ويتجاهل إنسانية ضحايا الذين انتزعت منهم أراضيهم وحقوقهم. ولعل ما يثير السخط أكثر من أي شيء آخر أن الرئيس الأمريكي يبدو مثل سمسار العقارات وهو يسوق لما يسميه «صفقة القرن»، وقد راح يستخدم عبارات من قبيل: «الفلسطينيون يستحقون فرصة لحياة أفضل»، وأن رؤيته للسلام «تمثل فرصة لا خاسرين فيها وتشمل حل دولتين واقعيا»، وأن «صفقة القرن» تعتبر «المقترح الأكثر تفصيلا» على مدى التاريخ، وأن الاتفاق الذي تم التوصل إليه اليوم (مع إسرائيل) يشكل «فرصة تاريخية بالنسبة إلى الفلسطينيين لتحقيق إقامة دولة مستقلة خاصة بهم في نهاية المطاف... وبعد 70 سنة شهدت تقدما قليلا، قد يكون ذلك هو الفرصة الأخيرة بالنسبة إليهم». إن «الصفقة» التي أعلنها دونالد ترامب تؤكد أنها تختلف في نهاية المطاف عن وعد بلفور. على الأقل وعد بلفور كان واضحا منذ البداية في تجاهله حقوق الفلسطينيين.أود أن أحافظ على معنوياتي المرتفعة وأقول إن هذه «الصفقة» لن تنجح أبدا، لكن التاريخ علمني دروسا صعبة. يمكن للقوة الامبريالية التي لا ينازعها أي أحد أن تنتهك القانون الدولي وتعيث فسادا وتجعل الشعوب الضعيفة تدفع الثمن، ثمن عنجهيتها وصلفها ولامبالاتها. لقد سارع اليمين الإسرائيلي إلى التعبير عن ابتهاجه بخطة ترامب -وهو يشمل بنيامين نتنياهو والأطراف التي تعارضه- علما أن هذا اليمين سوف يستمد مزيدا من القوة من صفقة القرن حتى يصعّد من عدوانه ويستغل هذا الضوء الأخضر الذي حصلوا عليه لكي يحكموا قبضتهم على الأراضي المحتلة أكثر من أي وقت مضى. إن القيادة الفلسطينية المنقسمة والفاقدة لأي رؤية لن تكون قادرة على رفع التحدي في وجه ترامب أو إسرائيل. أما العالم العربي المنقسم على نفسه والاتحاد الأوروبي العقيم فإنهما سيعبران عن الشجب والادانة، غير أنهما لن يستطيعا القيام بأي عمل فعلي وذي معنى، فيما إسرائيل تحكم قبضتها على الأراضي المحتلة. نجد اليوم أنفسنا أمام دولة واحدة على أرض الواقع؛ دولة الفصل العنصري، لندخل بذلك في مرحلة جديدة في المعركة من أجل المساواة وحقوق الانسان. أهلا بكم في عالم «صفقة القرن»، عالم لا يختلف عن العالم الذي واجهه العرب بسبب وعد بلفور الذي أُعلن في خضم الحرب العالمية الأولى، ستتولد الكثير من المظالم عن «صفقة القرن»، وستتواصل المعركة من أجل تكريس العدل.{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
مشاركة :