التوجه نحو الليبرالية مرحلة طبيعية للمجتمعات المستقرة والثرية، بل هو تحصيل للمكاسب التاريخية، فرأسال المال يتكون خلال عقود من الزمن، وعندما يتحول إلى سلطة يعمل من أجل أن يحافظ على قوته وتنفذه، ولو عدنا إلى مختلف مراحل التاريخ، ومراحل قيام الثورات والأمم التي تقوم على أيدولوجية محددة، وتابعنا مراحل تطورها لتبين لنا ذلك، فالحرب تحتاج إلى إيدولوجيا وقبضة متشددة، والسلم والرخاء يحتاج إلى مال وحرية نسبية.. كان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي أكبر حزب إقطاعي في التاريخ بعد خمسة عقود من قيام دولة عظمى تقوم على أيدولوجية موجهه ضد الثراء والغنى، لكنه في نهاية المجد وقع في المأزق، وتحول بمرور الزمن إلى مرجعية ثرية جداً، وبعد التحول إلى الرأسمالية أصبح نجوم الحزب الشيوعي أثرياء المجتمع. القاسم بين الأمثلة أعلاه، أنها في نهاية الأمر قد تسقط في أيدي جماعة جديدة متشددة، وقادمة من الأطراف ومن حالة الفقر والبؤس، لتعيد الدورة التاريخية من جديد، وهكذا، وهو ما يعني أن ثمة أسباباً حول هذه الدورات التاريخية، ولماذا لم تستمر في منحناها التصاعدي في هذه المجتمعات. في تاريخنا العربي والإسلامي يوجد عشرات الأمثلة، فالبناء يقوم على مبدأ ديني متشدد، ثم يعود بعد عقود إلى مرحلة جني المكاسب والتمتع بها، وهو ما يؤكد هذه الحقيقة التاريخية، لكنهم يعودون مرة أخرى إلى التطرف، لكن السؤال الأهم في هذا الطرح، لماذا اختلف هذا المسار التاريخي في الغرب، والتي عندما وصلت المجتمعات إلى الليبرالية وربط الاقتصاد والثراء بحالة السلم، عملوا على تثبيت قواعدها، وعدم السماح لها بالتراجع إلى من حيث بدأت. هنا تبرز أهمية التفكير الإستراتيجي في هذه المرحلة، والذي تتطلب دراسة واهتماماً بأحوال الناس، وعدم إثارة الأفكار المتشددة في عقولهم، ويأتي الاقتصاد في مقدمة هذه الأولويات، فالبناء الاقتصادي يحمي حالة السلم الاجتماعي من الانهيار، على شرط أن يكون قائماً على منهج إصلاحي مستمر، بحيث يكون الفساد عدواً لا يمكن التسامح معه. خلاصة الأمر أن الجماعات المتطرفة بمبدأ محدد، تتحول بمرور الوقت إلى حالة ثرية بالمال، وبالتالي تبدأ مرحلة الاستمتاع بالثروة بقبول فكرة الليبرالية، ويمكن تبرير ذلك بأي صورة شاؤوا، لكنها صورة متكررة في التاريخ، ولا يمكن تفسيرها إلا بكونها تطوراً طبيعياً للمجتمعات، لكنهم يغفلون عن هذه الجزئية باستمرارهم في المزايدة الأيدولوجية، وبالتالي قد يخسرونها مقابل جماعة أكثر تشدداً، ولهذا السبب نحتاج بعقلانية -كمجتمعات ودول- لأن نفهم أن حجر الزاوية في هذا التطور المتدرج والمحافظة عليه، هو البناء الاقتصادي المتين.
مشاركة :