الناقد جورج شتاينر: صخب الخيال كثافة كاملة

  • 2/13/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يعد الناقد جورج شتاينر واحداً من أكبر المثقفين المعاصرين، غير أنه لا يحب هذه الكلمة «مثقف»، مفضلا عليها «سيد القراءة». كناقد أدبي وباحث، نشر مقالاته (في «النيو يوركر» و«تايمز ليتريري سابلمنت») وثلاثين كتاباً، حتى يومنا الحالي، حيث يمثل كتابه «في قصر ذي اللحية الزرقاء» حجر الزاوية. علاوة على كتابه «طريق الثقافة» (2009). وهو من أصل نمساوي، ولد في باريس 23 أبريل 1929. وهاجر إلى الولايات المتحدة في 1940، درس في الليسيه الفرنسية بنيويورك. ثم الأدب المقارن في شيكاغو، هارفارد وأكسفورد.. وفيما يلي ترجمة لنص حوار مع شتاينر كان قد نشره الموقع الإلكتروني «لو بيتي سيلينيان « الفرنسي للحوارات الثقافية. * منذ سنوات، تقرأ وتعيد قراءة لوي– فردينان سيلين، جورج أورويل، فالتر بنيامين، باول سيلان، سيمون فيل وآرثر كوستلر، لكي تنزع إلى فك شفرات كوارث القرن العشرين. ولكن هل فهمت التعايش الممكن للبربرية السياسية والعبقرية الأدبية؟ - الآن، وقد اقتربت من نهاية حياتي، أذكر أن مفارقة متعذر حلها لاقتني في بداية عملي: هل من الممكن أن يعزف المرء شوبان أو موتسارت في المساء ويعذب في الصباح؟ من قبل، طلبت من الجميع: «ساعدوني على الفهم». شرح آرثر كوستلر لي أن الناس يمتلكون عقلين، عقلا أخلاقيا وعقلا بهيميا، إقليميا. ولكنها طرفة. لا يمتلك الإنسان عقلين، وإنما واحد، بئس الأمر. ذكر آخرون نوعا من الشيزوفرينيا المنظمة. لا أعتقد بها أيضا. بعد أكثر من نصف قرن من التدريس، أعبر عن الفرضية، التي كدرتني طويلا، الممثلة في أن مقدرة التخيل تلغي مبدأ الواقعة. أسميه «مفارقة كوردوليا». حينما أمضي ما بعد ظهيرة في تدريس الفصلين الثالث والرابع من «الملك لير»، أولج عالم كوردوليا واحتضاره. سأقول نفس الشيء بشأن مسرح راسين أو «أزهار الشر» (بودلير). حينما أقرأ، لا أسمع صخب الشارع. أو بالضبط، أسمعه ولا أنصت إليه: الفعلان مختلفان تماما. لأن الصخب في الشارع، صدى، سوقية، عارض. بينما صخب الخيال نقاوة وكثافة كاملة. هل من الممكن أن يجعل الفن، الشعور الجمالي العظيم أقل إنسانية؟ * السؤال المطروح بشأن سيلين (روائي فرنسي ذي ميول نازية) وروباتيه (كاتب وناقد فرنسي تعاطف مع الفاشية)، الذي تسامحت معهما كثيراً عن أورويل الذي لا توقره أبداً. ألا تهتم بالقصد الأخلاقي لدى الفنان؟ - قبالة عبقرية الفن، أشعر بكوني ملتزماً للغاية. نعم، لديّ معرفة لا نهائية بمعجزة الإبداع الأدبي، بالنسبة للوحة معلم كبير، بالنسبة لإبداع التناغم، «الأعجوبة القصوى لعلوم الإنسان»، كما قال ليفي– ستروس الذي غادرنا قبل فترة. بالنسبة لجورج أورويل، وددت أن أسطر أنه لم يكن العراف المعصوم كما قالوا عنه زمن دراستي في الولايات المتحدة وانجلترا. قبل فترة قصيرة من موته، ذكر جورج أورويل أنه من الضروري مرور قرنين من الزمان لكي ينسحب (الأثر) الستاليني من شرق أوروبا. في نفس اللحظة كان هناك ممثل سيئ، سكرتير نقابة هوليوود، يدعى رونالد ريغان، رأى أن الاتحاد السوفييتي سينهار قريبا. لم يفهم السيد ريغان أبدا السيد أورويل. إنها مفارقة تدعو إلى التفكير. من اللازم أن نكون متواضعين للغاية في التحليل. وانما الإبداع شيء آخر. اللغة الأم * اهتممت كثيرا بكتاب نزعت حقوقهم الأدبية من قبل لغتهم الأم، مثل باول سيلان من قبل النازيين، نابوكوف من قبل الشيوعيين. في هذا الشأن، لماذا لم تذكر ستيفان تسفايج، الذي توفي قانطاً من كون الألمان لم يصادروه؟ - الشيء الكبير لدى ستيفان تسفايج، قدره. كرست مقالا عن قصته «لاعب الشطرنج»، لأنني أيضا شغوف بالشطرنج. ولكن النتاج لم يعد يذكره أحد. أنه من قبيل الكتابة الصحافية، وليس أكثر. رسائله التي صدرت بالفرنسية مؤخرا بليغة الأثر. بالأخص رسائل أسابيعه الأخيرة، حينما أدرك أن لغته ملكه. باستثناءات نادرة قريبة – وايلد، بيكيت، نابوكوف، بورخيس حيث كانت الروح متعددة اللغات، حقا -، أنها كارثة عميقة أن تكون منفياً عن لغتك الأم. بالنسبة للنقد والبروفيسور الذي أكونه، من الرائع أن يتوفر منفذاً يفضي إلى لغات عدة. أذكر الإجابة المدهشة لرومان جاكبسون - حينما احتفلنا بعيد ميلاده السبعين في هارفارد في عام 1966- على رئيس الجامعة الذي سأله هل تتكلم سبع عشرة لغة. «نعم، وكلها بالروسية». إجابة عميقة جدا. * في «حصانة سياسية»، (كالمان–ليفي، 2002)، ذكرت أن «الشعراء المنفيين يشردون عبر لغتهم». وتعرف هذه الجملة لجيمس جويس: «نحن كاثوليكيون شاردون». هل نجد كل مبدع كبير غصبا وضروريا في المنفى وفي التيه؟ - نعم، من الممكن أن يكون رحالاً بلغته. أنها حالة كافكا وسيلان السامية حيث كانت اللغة الألمانية، بالنسبة لهما، ضرورية وغير محتملة. من اللازم أن أجد صفة تساعدني على قول ما هو غير محتمل وضروري! بالنسبة لجويس، كان التيه جغرافيا- دبلن، تريست، روما، باريس- وروحيا بين الكاثوليكية والسخرية الغنوصية، حتى وإن لم نعرفها جيداً. إنه التيه في العمى. أصبح ضريرا كهوميروس وميلتون. وأيضا، تلاشى النور. لا أحكم بحدة – كما أعتقد – على ما يعنيه كل هذا لدى واحد من كبار الأدباء. وبالنسبة لبورخيس، تلاشى النور. مع جويس، كانوا أبناء هوميروس الكبار. وهذا العمى سيئ حينما يأتي بطيئا، كما أعتقد. * على مدى مختاراتك، نندهش أحيانا من ارتيابك من بعض الكتاب لنقصان جدتهم. أليس هذا نقداً موجهاً إلى آندريه مالرو، الذي لا تبادله الإعجاب؟ - عاش طويلاً. بعد «الظرف الإنساني» و«الأمل»، لا أعتقد بكتاباته حول الفن. فضلا عن ذلك، نجدها وسط غبار المكتبات. ولكن يكفيه أنه كتب «الظرف الإنساني». دوما، من الممكن أن يكون العمر أفولا معذبا. في بعض الحالات. لا يقابل نتاج فكره أبدا. في حالات أخرى، يكبر وينمو. * والرثاء؟ - الأسلوب البليغ خاصية فرنسية ورومانية. في الولايات المتحدة، نشعر حينما نتلعثم، وهذا يعني أننا نقول الحقيقة. هناك بلاغة مضادة في الديمقراطية الأميركية البلاغية. لدى مونترلان وكلوديل، الفن الخطابي صفة فرنسية راقية. ديغول.. وستروس * هناك كتاب تفحصتهم يعيشون في بلادهم ويتملكهم الشعور بالغربة. أليست هي حالة سيمون فيل؟ - يزعجني أن أتكلم عنها. أعرف قيمتها. غير أنني لم أقبل أن ترفض امرأة اعتناق الكاثوليكية وقت معسكر آوشفيتز لأن هذه الكنيسة ذات نزعة يهودية. احترس من كل من يدعي أنه يعتقد أنه يفهم كل شيء. ديغول، الذي نادرا ما أخطأ في معرفته للآخرين، قال: «إنها حمقاء». وهذا يدعونا للتفكير. * هل تحب ديغول كثيراً؟ - كنت في الليسيه الفرنسية بنيويورك وقت الحرب. لا تستطيع أن تتخيل بذاءة المعلمين الفيشيين (نسبة إلى مدينة فيشي، العاصمة الفرنسية وقت الاحتلال الألماني). في يوم من الأيام، لحظة تحرير سان– بيار–ايه- ميكييون. قدم ديجول لكي يحدثنا. كان يمتلك جوانب عبثية، ولكنها توسم مرحلة من شبابه. هناك تواريخ داخلية لا أنساها. أذكر بنفس الطريقة ليلة أيقظني أبي من نومي كي يبلغني «استسلم فون باولوس في ستالينجراد، سنحيا». أعرف رعب الغولاغ، كتبت صفحات في هذا الشأن، بيد أنني لا أنسى أن الجيش الأحمر هو الذي حطم ألمانيا النازية. من الضروري أن أكون دوما عقلانيا، أن أحاول موازنة الأحكام. من الضروري أن أحيا ذكرياتها وهواها. أعرف أنه مع سيمون فيل وهانا آرندت، نقف أمام وثبة الفكر النسوي، الذي وجد على الدوام ولم يستطع أن يشق طريقه. هناك الكثير من الممكن قوله عن الظاهرة الفضولية للفكر النسوي وقت الانحطاط. ربما حينما ينسحب الرجال تتقدم النساء، كما جرى في البور–رويال أو «سيد سانتياجو» لمونترلان. * لماذا أنت حاد مع كلود ليفي– ستروس؟ - إنه رجل منغلق على نفسه، من نواح عدة. معلم بارع، غير أنه رجل ذو حياة شخصية غاية في السرية. من الضروري عدم الاحتشام أو اللياقة لسؤاله عن هذا الشأن. بقدر كونه منظراً كبيراً، يعد ابن عم من بعيد لبروست. ينتسب إلى عائلة يهودية آلزاسية، آل موس، آل هاليفي، آل بروست، آل ليفي–ستروس. أنها كوكبية مثيرة، عالم حولته النازية إلى رماد. * بدأنا باستدعاء التعايش الممكن بين الحضارة والبربرية. خافية أخرى تلازمك، خافية الإفراط في الاستعارات تحت الديكتاتورية. هل فهمته في يوم من الأيام؟ - درست في أوروبا الشرقية خلال السنوات المريرة. صفحة مكتوبة، وبالتالي هي فعل مقاومة وألم. أنها مفارقة الديكتاتورية. في عام 1973، نهار عودة بيرون إلى قمة السلطة في الأرجنتين، جاء السفير الأميركي لمقابلة بورخيس في المكتبة البلدية ببوينس آيرس عارضا عليه جواز سفر ومقعد إليوت نورتون في هارفارد. أجابه العملاق الضرير: «سيدي السفير، شيء طيب، ولكن الديكتاتورية أم الاستعارة». ومكث في بلاده. في نهاية حياتي، أتساءل إذا كان الأمر يستلزم أن أعاني لكي أكون ماندلشتام أو باسترناك. إجابتي كقارئ نعم. ولكنه ليس بالشيء الهين. هل أمتلك القوة لكي أبدع تحت هذا الضغط؟ أذكر أن آرثر كوستلر قال لي في يوم ما: «هل تعرف لماذا كتبك دون المتوسط؟ لأنك لم تعرف السجن أبدا. في القرن العشرين، ولم تدخل إلى السجن، يعني أنك لم تكن بين الأحياء». أنه حكم من دون داع أذكره في كثير من الأحيان، في الثالثة صباحا، خلال الساعات التي تقال الحقيقة فيها، كما قال سان جون دو لا كروا. ربما من اللازم الخضوع لهذا كله لبلوغ نظام ما. من مؤلفات شتاينر من كتب شتاينر: «تولستوي أو دوستويفسكي» (1963)، «اللغة والصمت» (1969)، «بعد بابل: شعرية القول والترجمة» (1975)، «مارتن هيدجر» (1981)، «معنى المعنى» (1988)، «أهواء غير معاقبة» (1998)، «قواعد الإبداع» (2001)، «فكرة معينة عن أوروبا» (2005)، «عشرة أسباب (محتملة) عن حزن الفكر» (2005)، «الكتب التي لم أكتبها» (2008)، «من يحرقون الكتب» (2008)، «في الخامسة من بعد الظهر» (2008). هامش: (*) Entretien avec George Steiner، Le Petit Celinien، Jeudi 15 Avril 2010.

مشاركة :