محمد نور الدين أعادت التطورات في إدلب وفي شمال سوريا تصويب البوصلة في العديد من الآراء، التي كادت تصبح مسلمات في السنوات الأخيرة. ومن أكبر هذه «المسلمات» أن تركيا قد انزاحت وانحازت إلى الشرق على حساب موقعها في المنظومة الغربية.وقد استند أولئك الذي شطحوا بعيداً على التفاهمات المستجدة بين تركيا وروسيا وإلى حد ما إيران. فروسيا كانت طرفاً في شراكة «استراتيجية» مع أنقرة؛ عندما وقعت مع نظام رجب طيب أردوغان اتفاقات؛ تقضي: ببيع تركيا صواريخ «أس 400»؛ ومد خط أنابيب «السيل التركي» من روسيا عبر البحر الأسود إلى تركيا، ومنها إلى أوروبا. فضلاً عن إلزام روسيا بإنشاء مفاعل نووي في مرسين. وفي ذلك تتحرر روسيا من الارتهان لخط الغاز الذي يمر بأوكرانيا كما تحدث اختراقاً في المنظومة العسكرية لحلف شمال الأطلسي. في المقابل حصلت تركيا على ضوء أخضر روسي؛ لاحتلال مناطق جرابلس - الباب - أعزاز وعفرين، ومن ثم عملية «نبع السلام» التي احتلت بموجبها تل أبيض ورأس العين شرقي الفرات، وما بينهما وبعمق 30 كيلومتراً. كما أُعلنت إدلب منطقة «خفض تصعيد»؛ حيث تمركزت هناك 12 نقطة مراقبة تركية. كانت روسيا تراهن بمنح تركيا مكاسب في سوريا على أن تبعدها عن حلف شمال الأطلسي، وتحدث شرخاً بين أنقرة وواشنطن. في المقابل كانت تركيا تحقق مكاسب ميدانية باحتلالها لأراضٍ واسعة داخل سوريا. القبول التركي بهذه الاتفاقات كان لهدف أساسي؛ وهو الدخول إلى شمال سوريا؛ لتضمه إلى نقاط تواجدها في شمال العراق، والتي تزيد على عشرين مركزاً عسكرياً؛ من بينها الأكثر شهرة قاعدة «بعشيقة». لم تكتف تركيا بإزالة «الكوريدور» الكردي في شمال سوريا، الذي عدته تهديداً لأمنها القومي؛ لكنها باتت تكرر على لسان مسؤوليها أنها تريد الوصول إلى حدود «الميثاق الملّي» لعام 1920، والذي يلحظ شمال سوريا والعراق ضمن حدود تركيا الجديدة؛ بعد انهيار الدولة العثمانية عام 1918. وتشكلت منظومة من الأفكار أن الدفاع عن حدود تركيا الحالية، إنما يكون من على خط حدود الميثاق الملي، وليس من نقطة الصفر الحدودية الراهنة. تباينت أهدف روسيا وتركيا من التقارب فيما بينهما. لكن عندما شعر التركي أن مصالحه الاستراتيجية، وتواجده عند خط حدود الميثاق الملي مهددة من قبل الجيش السوري، الذي تقدم على جبهة إدلب، تحركت جحافل جيشه مباشرة إلى داخل إدلب في عملية إلحاق مباشرة لمنطقة إدلب إلى مناطق عفرين ودرع الفرات ونبع السلام. وهنا كان الافتراق أو بالأحرى التباين بين أنقرة وموسكو. ما يلفت أن أنقرة التي تتهم واشنطن بدعم «الانفصالية» الكردية في سوريا، استنجدت خلال الأيام القليلة الماضية بواشنطن نفسها، وبحلف شمال الأطلسي، طالبة منهما الدعم؛ لمواجهة التهديد الذي يشكله الوضع في إدلب على «الديموقراطيات الغربية». ولم تتأخر أمريكا في الإعراب عن وقوفها إلى جانب أنقرة؛ بل وصل مبعوثها جيمس جيفري مرتين إلى العاصمة التركية؛ للقاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. العملية العسكرية «الشاملة» التي تعد لها تركيا لا هدف لها سوى ترسيخ الاحتلال التركي لمنطقة أخرى من سوريا في نطاق تثبيت حدود الميثاق الملي. وهو احتلال في ضوء الموقف الأساسي لأنقرة كجزء من منظومة حلف شمال الأطلسي، يمكن أن يتحول إلى احتلال له صفة «الأطلسية». ويذهب بالتالي التقارب التركي مع روسيا إلى سلة المهملات؛ بعدما تكون تركيا قد استفادت منه إلى الحد الأقصى، فيما لم يكن الرهان الروسي في محله؛ لإبعاد أنقرة عن الغرب، وجذبها إلى معسكر موسكو. فتركيا لا يمكن أن تتخلى عن الأطلسي الذي حمى وحدة أراضيها من الانفصالية الكردية داخل تركيا، والغرب لا يمكن أن يتخلى عن تركيا بمعزل عمن يحكمها من علمانيين أو إسلاميين؛ بسبب حاجته إلى دورها في مواجهة روسيا وإيران. وقد أدت تطورات إدلب وشمال سوريا في الآونة الأخيرة دورها الكامل في إظهار أن التقارب التركي مع روسيا، مهما بدا أحياناً متيناً، ليس استراتيجياً، وأن الغرب و«إسرائيل» سيظلان الحاضنة الآمنة والدافئة لنظام رجب طيب أردوغان.
مشاركة :