التهافت على الانحطاط... في الأدب والثقافة والفنون

  • 2/16/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

ظهرت - أو لنقل طغت - بشكل لافت ظاهرة انتشار الكتب التي إن قرأت محتواها تجد أنها غارقة في التسطيح، وان أصحابها يكتبون كلاماً عادياً، يقوله أي شخص ليس لديه أي موهبة، يريد أن يفضفض بما يعتمل داخله، بلغته نفسها التي يتكلم بها، من دون النظر - من قريب أو بعيد - لعامل الإبداع والأدب، فهو كلام قد تسمعه يومياً على المقهى أو في الشارع أو السوق، أو أي مكان آخر، وليس هناك حاجة إلى أن يُطبع في كتب، أو تقام له حفلات توقيع في معارض الكتب الدولية، ودعاية صاخبة على مواقع التواصل الاجتماعي.هذه الظاهرة، تبعاتها كبيرة على ذائقة المتلقي، من خلال تدميرها لمفاهيم الإبداع، والأدب الذي لا يمكن لأي أحد الدخول في متونه إلا بموهبة حقيقية، وممارسة ومعرفة، وأشياء أخرى تنبني عليها قوة وضعف المحتوى الإبداعي المطروح.ومن الغريب أن تلك الكتب التي لا علاقة لها بالإبداع من قريب أو بعيد... رغم أنها تشارك في المعارض الدولية للكتاب، بل إنها تحصد الشهرة والإقبال الجماهيري على شرائها وتنظّم لها حفلات توقيع، في ما تظل الكتب التي مضامينها تحمل قيمة عالية ومفيدة في حيّز الإهمال، ولا يقبل عليها إلا نخبة من العارفين بقيمة محتواها.إن انحطاط الذوق العام في التعاطي مع الأدب أو بمعنى، آخر وقوف أصحاب الكتابات التي لا تعبر عن الإبداع في المقدمة، بينما الكتابات التي تندرج ضمن مفهوم الأدب تقف في الصفوف المتأخرة، مؤداه ضياع حقيقي للثقافة، والرجوع بالأدب إلى مستويات متدنية، كما أنه يؤثر بشكل مباشر على المجتمع الذي يتخلى تدريجياً عن التعاطي مع الكلمة الصادقة الجادة والمعاني المخلصة، والخيالات الراقية، والتأقلم مع الرداءة ولغة السوق، والانسياق خلف مدّعين... مواهبهم منحصرة في القدرة على حصد المعجبين على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما امتلاكهم للمواهب الإبداعية منعدم، فهم يكتبون كلاماً هلامياً لا يحقق أي فائدة أو حتى متعة أدبية مرجوة.فهذا الذي يصف من يتوهم حبها بأنه يقطّع نفسه مثلما تُقطّع الجزرة تحت سكين ربة منزل، وآخر يّشْتِم من يحب بألفاظ نابية لا ترقى على الإطلاق إلى المستوى الإنساني، وثالث يطرح كتاباً بأكمله مأخوذا من تغريداته التافهة على تويتر، وغير ذلك من الكتابات التي لولا الفضاء الإلكتروني الفسيح ما كان لها أي وجود، بحجة الحرية الشخصية، نعم قد تبدو المسألة أنها حرية شخصية، ولكنها حرية في إزهاق الأمل المتبقي لدينا في إبداع جاد يساعد مجتمعاتنا العربية في تخطي أزماته، والاقتراب من مفاهيمه الخلاقة، وأحاسيسه المتوهجة، وأحلامه التي بدأ الانطفاء يستشري في كل جوانبها.إنها حرية وأد الجمال، وتحويل الحياة إلى مساحة من البذاءة والتسطيح والانحلال والتفاهة، تلك التي تدمر الإنسان وتجعله انهزامياً لا قدرة له في مواجهة واقعه بالرقي والتحضر.إن هؤلاء المدعين استفادوا من التقدم التكنولوجي، من خلال سلبياته، ولم يستفيدوا من إيجابياته، تلك السلبيات التي تحيل الجمال إلى قبح، فلم نرهم يتحصنون بالمعرفة والتطور والانفتاح على الثقافات، من أجل تعمير العقول بالجودة والقيمة والتألق والإسهام في الارتقاء بمجتمعاتهم بما يخدم مستقبلهم، ولكنهم يسعون إلى شهرة زائفة لا تستمر طويلاً، ومنافع لهم يحصدونها بينما تبور الثقافة وتضمحل القيم وتنهار معانيها، ولا تتبقى من التكنولوجيا إلا هذه السقطات التي يتهافتون عليها، وتتساقط على أنفاسها العفنة رغباتهم.إننا نتأمل تلك الأمور وليس باستطاعتنا التصدي لها، لأنها مائعة غير محددة الاتجاهات، وليس لها ملامح يمكن من خلالها الإشارة إليها، ولا يمكن التأكد من وجودها إلا بعدما تحقق مرادها من طمس الثقافة الجادة والتأثير المباشر على المجتمعات، تأثيراً مدمراً خصوصا الشباب وقليلي الخبرة، الذين ينبهرون بالمنظر، ولا قدرة لهم في الكشف عن المضمون، واعتقادهم أن ما هو موجود يعبّر عن الأدب، وغيره لا قيمة له.إن التهافت على الانحطاط لم يقتصر على الأدب فقط... ولكنه حلقة لم تنته امتدت إلى الفنون والإعلام المرئي أيضاً، وإنك بكل بساطة يمكنك اكتشاف ذلك من خلال الأسماء التي كرّستها الأوضاع الملتبسة والمحيّرة... لتحتل كامل المشهد، وهي الأسماء نفسها التي تتكرر باستمرار في مشاهدتنا اليومية للفضائيات غناء وتمثيلاً وإعلاماً، تلك التي تحرص من خلال منظومة معقدة على إسقاط المجتمعات في أوحال التفاهة، والأمثلة على ذلك كثيرة، في ما آثر الإبداع الحقيقي الاختفاء، والابتعاد عن المشهد، وهذا الأمر ساعد الانحطاط كثيراً على أن يؤدي دوره التدميري باتقان وراحة ومن دون مطاردة أو تنقية.

مشاركة :