مظلّتان يجْهد لبنان هذه الأيام للحصول عليهما باعتبار أنهما تشكلان «جناحيْ» خلاصه، وهما تحديد الأدوات التي ستُستخدم في «جراحة» وقف النزيف المالي - الاقتصادي من ضمن مسارٍ «يحْمي ظهرَ» البلاد قانونياً ويُبْقي «خطَّ الرجعةِ» إلى الأسواق العالمية، واستعادة الاحتضان العربي - الدولي لواقعه.ولأن المظلّتيْن متلازمتان، توقّفت أوساط واسعة الاطلاع عبر «الراي» عند الزيارة التي قام بها رئيس مجلس الشورى الإيراني علي لاريجاني وجاءت بمثابة إنزال خلف خطوط عنوان النأي بالنفس الذي راهنتْ الحكومة الوليدة على «جاذبيته» للحؤول دون تكريس عزْل البلاد عن محيطها الطبيعي.وكان بارزاً أن «انكشاف» الواقع اللبناني على «الحضن الإيراني» جاء فيما تترقب بيروت وصول وفد من خبراء صندوق النقد الدولي مساء اليوم بناء على طلب لبنان الحصول على مشورة تقنية حيال كيفية التعامل مع ديونه واستحقاقاتها وأقربها في 9 مارس المقبل إذ تستحقّ سندات يوروبوندز بقيمة 1.2 مليار دولار، نحو 800 مليون دولار منها محمولة لأجانب، ويتعيّن اتخاذ قرار رسمي في شأن سدادها أو عدمه من ضمن مسار سيفتح الطريق على إعادة هيكلة الديون بطريقة أو بأخرى.وإذ كانت مصادر عدّة في بيروت تَعتبر أن مشورة صندوق النقد الذي يعقد اجتماعاتٍ ابتداء من الخميس، وإن تكن لا تعني دخول لبنان في برنامج مع الصندوق إلا أنها يمكن أن تسهّل في ضوء خلاصاتها مهمّة التفاوض مع الدائنين (في استحقاق مارس) لعدم سدادٍ منظّم يقطع الطريق على أي مسارات قضائية دولية مرْبكة ومُكْلفة، لفت موقف من وكالة «فيتش» التي اعتبرت «أن وضع لبنان المالي يشير إلى إعادة هيكلة للدين قد تتّخذ أشكالاً مختلفة والمفاوضات مع حَمَلة السندات قد تكون معقدة».وعلى وقع مواصلة الدولار الأميركي «التهام» الليرة اللبنانية في السوق المُوازية (بلغ سعر الصرف 2550 ليرة في موازاة السعر الرسمي بنحو 1510) وسط فوضى كبيرة على هذا الصعيد تركت انعكاسات هائلة على الواقع المعيشي في ظل «التهاب» الأسعار، والكشف أن الرئيس ميشال عون لم يوقّع بعد قانون موازنة 2020 رغم مرور نحو 22 يوماً على إقراره في البرلمان ما طرح علامات استفهام حول خلفيات هذا التمهّل وآثاره المالية، لفتت إشارة رئيس الجمهورية خلال استقباله المستشار البريطاني الأعلى للدفاع في شؤون الشرق الأوسط الجنرال السير جون لوريمير إلى «ان الأزمة المالية التي يعانيها لبنان موضع معالجة»، مؤكداً «أن صندوق النقد الدولي سيقدّم خبرته التقنية في الخطة التي ستُعتمد في هذه المعالجة».وعلى وهج هذا المنعطف الاستثنائي، مَن أكثر مِن وزير المال لعشرة أعوام (بين 1992 - 1998 و2001 - 2004) ورئيس الحكومة لأربعة أعوام (2005 - 2009) فؤاد السنيورة يمكنه تقديم «النصائح» في زمن التردُّد حيال الردّ على «السؤال الكبير»: هل يدْفع لبنان أو ينبغي أن يُحْجِم عن الدفع؟ وقد حرص السنيورة على دعوة عدد محدود من وسائل الإعلام، كانت بينها «الراي»، إلى جلسةِ شرح فيها موقفه من الخيارات المالية والسياسية.وكعادته، استهلّ السنيورة مقاربته بمثَل شعبي بيروتي يقول «من إيدك بـ كيدك»، في إيحاءٍ إلى أن مَن كان يعارض مشروعه الإصلاحي ويزايد عليه، يحصد الآن ما آلت إليه البلاد من أزمات ومآزق «ولو أتيح لجدران البرلمان ان تتكلم، لأفصحتْ عن حجم التحذيرات التي بُحّ صوتي وأنا أنبّه منها، ولا سيما من مغبّة تحميل الخزينة أعباء لا يمكن تحمّلها (...) فما يجري الآن هو بسبب مسارٍ عارض الاصلاحات واستشرس في الإنفاق»، منتقداً الذين يتحدثون عن ترْكة الـ30 عاماً «وهم كانوا في سدة المسؤولية على مدى 12 عاماً منها».وفي رأي السنيورة «ان المشكلة الآن كبيرة جداً والمناقشات تتجاوز مسألة الدفع أو عدمه لأنه ينبغي النظر بدقّة إلى الواقع المالي ودرْس كلا الخياريْن وتبعات كل منهما»، معتبراً «ان هذا يجب أن يكون من عمل الحكومة مع مصرف لبنان وخبراء ماليين وقانونيين بالتعاون مع صندوق النقد الدولي الذي يتمتع بخزين من التجارب الدولية وبأفضل التطبيقات بحسب طبيعة كل بلد»، ولافتاً إلى «أن من غير الجائز شيْطنة صندوق النقد، فهو يقدّم اقتراحات، والدولة تتخذ القرارات الملائمة».وفي نظر السنيورة ان أهمية صندوق النقد هي في «ختْم الصدقية» في بلدٍ يعاني أزمة ثقة، مشبّهاً لبنان الآن بـ«مريض يعاني اشتراكاتٍ ويحتاج لدواء مالي ودواء إداري ودواء قِطاعي والأهمّ إلى دواء سياسي»، متحدّثاً عن «انحسارٍ كاملٍ في الثقة بين المواطنين والدولة وبين لبنان والمجتمعيْن العربي والدولي، وهو أمرٌ يحتاج لعلاج بمعاودة تصويب البوصلة وإعادة الاعتبار للدستور الذي مزّقتْه الأهواء وللدولة التي تعاني من تَسلُّط الدويلات».وفاجأ السنيورة الحاضرين بقوله: «لو كنتُ وزيراً للمال لقررتُ السير بعدم الدفع (سندات اليوروبوندز) في إطار خطةٍ واضحةٍ ومُلْزِمة ليصار في ضوئها للتفاوض مع الدائنين والتفاهم معهم على الجدولة. وعدم الدفع أفضل من الدفع، لكن بالتلازم مع إجراءاتٍ إصلاحية صارمة وإلا نكون انزلقنا إلى ما هو أسوأ»، معلناً «ثمة أمر يمكن ان نقوم به اليوم ويبدأ بخطة الكهرباء».ولم يتردد في القول انه ينصح رئيس الحكومة حسان دياب «بالاتصال فوراً بـ(رئيس مجلس إدارة والمدير العام للصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي) عبداللطيف الحمد طلباً للمساعدة التي كانت عرضتْها بلاده (الكويت) العام 2010، يوم تَعَجْرَف الوزير جبران باسيل قائلاً له ذات مَرّة أنا لستُ بحاجة إلى مساعدتكم ففي جيبي 1.2 مليار دولار»، ناصحاً دياب بوضع يده على ملف الكهرباء «الآن الآن وليس غداً» ورفْع الدعم عن استهلاك ما فوق الـ500 كيلوواط.ويعود أوّل وزير مال بعد الحرب (السنيورة) بالذاكرة إلى العام 1993 في ردّ غير مباشر على الذين يحمّلون «الـ30 عاماً الماضية» مسؤولية «الخراب الآن»: «كان الدمار هائلاً والجرذان تصول وتجول تحت نافذتي وفي الملفات وكان راتب الموظف يوازي 50 دولاراً»، لافتاً إلى أنه يوم تَسلّم المالية كان الدين العام 3 مليارات دولار بلغت فوائدُها الآن 43 ملياراً من مجمل الدين العام، في الوقت الذي يشكّل تمويل عجز الكهرباء ما يوازي هذا الرقم أيضاً من الدين العام.وإذ أعرب عن سعادته «بأفول نجم حكومات الوحدة الوطنية التي تزجّ بالموالاة والمعارضة جنباً إلى جنب في السلطتين التنفيذية والتشريعية»، رأى أن الحكومة الجديدة التي «أتمنى لها النجاح، وُلدت بملابسات وشُكلت بملابسات وجاءت بمكونات ملتبسة».وبدا السنيورة مرتاحاً لـ«إلغاء التسوية» بين عون ورئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وهو الذي عارَضها منذ اللحظة الأولى ولا سيما بعدما استُخدمت من «التيار الوطني الحر» - حزب رئيس الجمهورية - «لانتزاع التنازلات»، مؤيّداً الدعوة لقيام جبهة معارضة سياسية تضمّ أركان حركة «14 آذار» سابقاً. ولم يتردّد بالإيحاء في سياق الردّ على سؤال عن الدعوات الضمنية لإسقاط عهد عون بالقول: «مَن يحلّ مشكلات اللبنانيين يبقى، ومن لا يحلّها... لا يبقى».
مشاركة :