الليبرالية ورجال الدين في إيران - محمد بن علي المحمود

  • 6/4/2015
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

لم يرضخ الليبراليون لمسيرة اغتيال الحرية والديمقراطية الوليدة على يد رجال الدين بسهولة، بل قاوموا ذلك؛ بمجرد أن استشعروا الخطر كامنا فيما يخطه رجال الدين في الدستور الجديد. بدأت المواجهة الحقيقية عندما طرح الخميني ولاية الفقيه المطلقة الصلاحيات تعيش الليبرالية أزمة سوء فهم، بل وأزمة عداء مسبق، في كل المجتمعات البدائية التقليدية التي يهيمن على وعيها العام رجال الدين الانغلاقيون المتعصبون. في مثل هذه المجتمعات البدائية التي يقود وعيها سدنة خطاب الجهل والتعصب، لا تُفهم الليبرالية كما هي حقيقة؛ بوصفها مسارات حُرّة تتغيا التحرر الإنساني؛ بغية اكتمال الإنساني في الإنسان، وإنما تفهم – بدافع جهل، وبإرادة سوء فهم – بوصفها انحلالا وفوضى وانتقاصا من المقدسين: الديني والاجتماعي. وطبعا، يتعمق هذا الفهم المغلوط، أو يجري تعميقه عن قصد؛ عندما تكون الليبرالية فاعلة في الفضاء الاجتماعي والسياسي، أي عندما تشكل خطرا على تيارات إيديولوجية نافذة في ساحة الفعل الاجتماعي، أو عندما تتنافس مع تيارات حركية استنفاعية تطمح إلى مزيد من النفوذ على حساب عقول وحريات الجماهير. طبيعي أن يكون رجال الدين المتعصبون في حالة عداء حاد مع الليبرالية والليبراليين؛ لأنهم (الليبراليين) النقيض الفكري والواقعي لكل ما تتكئ عليه المنظومة التقليدية في خطابها وفي عملها. فالليبرالية تدعو للتحرر الإنساني، تدعو لرفع الوصاية، ومأسسة حقوق الإنسان، تدعو للديمقراطية الاجتماعية والسياسية، تدعو للمساواة، تدعو لدولة المؤسسات والقوانين، تدعو لتفعيل إرادة الإنسان، بينما يدعو رجال الدين المتعصبون للعبودية بشكل مباشر أو غير مباشر، إنهم يضطهدون المرأة والأقليات، يدعون للاستعباد والاستبداد، ويُؤسّسون للمفاهيم الثيوقراطية، ويعمدون - جاهدين - لمحاصرة إرادة الإنسان بحدود ما أراده الأسلاف. وهنا، لا بد أن يقع الصدام، وتتسع دوائره بحجم نفوذ رجال الدين من جهة، وبحجم ما تمثله التيارات الليبرالية من تهديد للهيمنة الكهنوتية من جهة أخرى. لا شك أن الثورة الإيرانية نهضت على أكتاف رجال الدين، ورجال الدين هم قادتها الذين عرّضوا أنفسهم للخطر القاتل في اللحظات الفاصلة بين نجاح الثورة وفشلها. لكن، تبقى الحقيقة التي لها ما بعدها، وهي أنهم لم يكونوا وحدهم في الساحة، رغم أنهم الأكثر جماهيرية، ومن ثم الأكثر فاعلية في التغيير؛ لأن الثورات لا تنهض إلا بالجماهير المحتشدة أو بالجيوش. وربما كانت هذه الهيمنة الاستثنائية لرجال الدين في الثورة الإيرانية هي سبب تحولها من ثورة شعبية ترفع شعارات التحرر من الاستبداد والفساد، إلى ثورة تؤسس لدولة ثيوقراطية تقودها نخبة من الذين لا يؤمنون بحرية الإنسان، بقدر ما يؤمنون بشعارات دينية إيديولوجية ذات طابع شمولي، شعارات ماضوية تضرب في عمق التاريخ. في الثورة الأولى (ثورة مصدق بداية الخميسنيات، حيث جرى تأميم النفط الإيراني)، أيّد آية الله كاشاني مصدق في ثورته (رغم اعتراض كثير من رجال الدين على العمل المباشر في السياسة)، وحاول كاشاني طبع الثورة بطابع ديني، بل وتكلم بقطعية يقينية كأي رجل دين يرى أن خياراته السياسية، فضلا عن الدينية، هي خيارات الله جملة وتفصيلا. ولهذا، لم يكن غريبا أن يعلن أن "كل من يعارض تأميم النفط الإيراني فهو عدو للإسلام" (حدائق الأحزان، مصطفى اللبّاد، ص64)؛ لأن رؤيته آنذاك (وهي رؤية رغم بشريتها إلا أنها تتقدس في وعيه، ومن ثم في وعي مُريديه) تُقرّر أن التأميم جزء من مخطط أكبر لنصرة الإسلام والمسلمين على النفوذ الأجنبي الكافر. هكذا، نرى كيف دخل رجل الدين ليحكم الإرادة السياسية، لا برؤية سياسية، وإنما برؤية دينية، تحتكر الدين احتكارا صريحا يصل إلى حد تكفير المخالفين حتى لو كان خلافهم في هوامش الخيارات السياسية. ورغم أهمية هذا؛ إلا أنه ليس هو الأهم، إذ هذا هو سلوك رجل الدين الدوغمائي أينما كان، بل المهم ما جرى بعد ذلك، وتحديدا: عندما استقطب مصدق كثيرا من العناصر الليبرالية في الوزارة، ما تسبب في تفويت الفرصة على رجال الدين الذين كانوا يتصورون أنهم امتلكوا مصدق وحكومته بمجرد دعمه في حركة التأميم. في هذا السياق حدث تحوّل خطير له دلالته، إذ غضب رجال الدين على مصدق بسبب استعانته بالليبراليين، "وأفتت مجموعة كبيرة من رجال الدين بأن (مصدق معاد للإسلام والشريعة)"، وانسحب آية الله كاشاني، وأعلن معارضته لمصدق بعد أن كان أبرز مؤيديه (حدائق الأحزان، مصطفى اللبّاد، ص65). لاحظ كيف يُدير رجال الدين الإسلام حسب خياراتهم السياسية، وحسب مواقف خصومهم السياسية التي لا تروق لهم. لاحظ الانتقال من النقيض إلى النقيض: قبل أن يستعين مصدق بالليبراليين، كان في نظرهم يُمثّل الإسلام، ومن يعاديه يعادي الإسلام، وبعد أن اتضحت خيارات مصدق السياسية التي لا تستجيب لهيمنة رجال الدين، أصبح مصدق نفسه (معاديا للإسلام والشريعة)؛ لمجرد أنه مارس حقه السياسي/ السيادي - كرئيس للوزارة - في اختيار وزرائه ومساعديه المقربين. إن هذه الروح الانغلاقية المتزمتة هي التي ستقود الثورة الخمينية، وتؤسس الدولة الثيوقراطية بعد ستة عشر عاما من ثورة/ حركة مصدق. صحيح أن الجبهة الوطنية التي تكونت في الخمسينيات على ضوء حركة مصدق كانت أقرب إلى اليسارية، لكن ثمة مجموعة ليبرالية متدينة خرجت من رحمها (كما يشير إلى ذلك مصطفى اللباد، ص67)، وكانت بقيادة مهدي بازركان ومحمود طالقاني، وكانت هذه المجموعة هي التي أسست (جبهة تحرير إيران) عام 1961. وبلا جدال، كان لهؤلاء الليبراليين المتأسلمين أثر كبير في إشعال الثورة، وفي ضمان التفاف غير المتأسلمين من ليبراليين ويساريين مع القيادات الدينية، تلك القيادات التي لم تكن في البداية تكشف عن روحها الاستبدادية، ولا عن طموحاتها السلطوية التي ستضطر إلى الكشف عنها فيما بعد، وستقوم بإقصاء كل المخالفين لمسيرتها الاستبدادية؛ حتى ولو كان المخالف من داخل صفوف رجال الدين. لم يرضخ الليبراليون لمسيرة اغتيال الحرية والديمقراطية الوليدة على يد رجال الدين بسهولة، بل قاوموا ذلك؛ بمجرد أن استشعروا الخطر كامنا فيما يخطه رجال الدين في الدستور الجديد. بدأت المواجهة الحقيقية عندما طرح الخميني ولاية الفقيه المطلقة الصلاحيات، التي تعني أن لا حرية ولا ديمقراطية في الجمهورية الدينية الناشئة. اعترضت جماعة (جبهة تحرير إيران) التي يتزعمها بزركان، معلنة أن المسألة كانت أكثر من دكتاتورية جديدة، بل تحولت إلى احتكار للقوة (التغرُّب في الثقافة الإيرانية الحديثة، غسان طعان، ص133). بل لم يكن ثمة مدني شارك بداية الثورة في الثورة أو في حكومتها إلا واستشعر الخطر انطلاقا من تصورات ليبرالية. يقول رياض الريس عن بني صدر أول رئيس للجمهورية بعد الثورة: "كان لبني صدر طموحات ليبرالية شبيهة إلى حد ما بتطلعات خاتمي اليوم، وكانت مناقضة لتوجهات خميني، ما دفع ببني صدر إلى شبه تمرد مكشوف على خميني" (مصاحف وسيوف، رياض الريس، 24). وكان من نتيجة هذه المواجهة أن أزاح الخميني بني صدر باتهامات شتى، أبرزها أنه كان يسعى لتقليص نفوذ رجال الدين، فاضطر إلى الهرب لينجو بنفسه، بعد أن عرف أن ثمة دولة ثيوقراطية شمولية انغلاقية يتم التأسيس لها على أنقاض الحرية والديمقراطية التي ناضل من أجلها، وبعد أن أيقن أن لا مكان بعد اليوم في إيران لمن يرفض استبداد رجال الدين. لقد أدرك رجال الدين – بحكم الصدام الواقعي – أن الليبرالية إذا لم تُقمع؛ ستكون خط المواجهة مع مسيرتهم للهيمنة، لا على مفاصل السلطة الزمنية فحسب، وإنما حتى على الأرواح والعقول والأجساد أيضا، أي على كل ما يمكن أن تصل إليه آليات التحكم المرئية وغير المرئية، المباشرة وغير المباشرة، في عالم الغيب كما في عالم الشهادة، إذ يدعي رجال الدين – كما هي حال رجال الدين التقليديين في كل مكان – أنهم يملكون تفويضا من الله؛ ليحكموا عباده بالوكالة!. طبعا، وكما يعرف الجميع، انتصر المتعصبون، وانهزمت الليبرالية. لكنها بقيت في طبقات الوعي الاجتماعي تمانع، بشجاعة أحيانا، وبحذر وخوف في معظم الأحيان. ولم يكن صعود خاتمي، الذي دعم السينما ومواضيعها الجريئة عندما كان وزيرا للثقافة – كمؤشر على توجه ثقافي انفتاحي ليبرالي - إلا تعبيرا عن روح ليبرالية كامنة، ولم يكن فوزه والحركة الإصلاحية من ورائه بالرئاسة إلا انتفاضة ليبرالية صريحة لم يكتب لها النجاح في المدى القريب. من هنا، كانت معركة رجال الدين مع خاتمي امتدادا لمعركتهم الأشمل مع الليبرالية ومع العصر الليبرالي. لقد حاربوا خاتمي في كل خطواته الإصلاحية، ورأوا أنها خطوات ستنتهي بالمجتمع إلى الانحلال، وبالسلطة الدينية إلى الاضمحلال. من هنا كانت المواجهة حتمية، ففي التصدي لخاتمي أصدر مجلس النواب قواعد إسلامية (بينما هي بشرية، تُستخدم في الصراع على السلطة) وكانت هذه القواعد تركز على قمع المرأة كرمز للقمع السلطوي، وكان من جملتها: النساء في المستشفيات لا يطببهن ولا يشرف عليهن إلا موظفات وممرضات وطبيبات إن أمكن.. ومنع الصحف من نشر صور نساء حاسرات الرأس..إلخ (مصاحف وسيوف، رياض الريس، ص77). وكل هذا في محاولة لإثبات الوجود واستعراض القوة؛ بإرساء مزيد من قوانين التزمت الأخلاقي لمحاصرة المد الليبرالي. إذن، الليبرالية كانت هي خط المواجهة مع هيمنة الكهنوت الديني. ومن هنا لا غرابة أن نجد الخوف من الليبرالية منذ بداية الثورة وإلى اليوم، وقد بدا هذا واضحا حتى في خطاب قائد الثورة وزعيمها: الخميني، ففي رسالة الخميني إلى منتظري، تلك الرسالة التي عزله فيها عن منصبه كخليفة له، قال مبرراً عزله: "إنك ستسلم البلاد والثورة الإسلامية من بعدي لجناح الليبرال ومن خلالهم للمنافقين". كما قال أيضا في الرسالة ذاتها: "إنك تعتقد من خلال تصريحاتك ومواقفك بضرورة حكم البلاد من قبل الجناح الليبرالي والنفاق" (حدائق الأحزان، مصطفى اللبّاد، ص210). هكذا، لا يختلف الخميني عن أي شيخ تقليدي في أي مكان من هذا العالم الإسلامي، إذ يصم المختلفين معه بالنفاق. ونحن كم سمعنا من وعاظنا المنغلقين من يصف الليبراليين بالمنافقين، تماما، كما كان الخميني يصفهم بذلك قبل ثلاثة عقود. حقيقة، رغم التباينات المذهبية، تتشابه السلفيات التقليدية في رؤيتها الكونية العامة، فهي – دائما وأبدا - في خصام حاد وأزلي مع حركة العالم في صيرورته التطورية/ التقدمية. ولك أن تتأمل في الواقع الإسلامي؛ لتجد أن السلفيات التقليدية هي اليوم في حالة عداء مسعور مع العالم الحضاري/ المتقدم، الذي هو – كما يبدو في طلائعه الحضارية - عالم ليبرالي بامتياز.

مشاركة :