الأسماء بين طغيان الكنى وامتهان الألقاب

  • 2/20/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

لقد ذكر الله سبحانه وتعالى في محكم التنزيل أنه علّم آدم الأسماء، مختصاً إياه بهذا العلم دون الملائكة مما يدل على عظم منزلة آدم أبي البشر واستخلافه في الأرض من جهة، وأهمية علم الأسماء والمسميات من جهة أخرى.. وقد قال صلى الله عليه وسلم من أعطاه الله وجهاً حسناً واسماً حسناً وجعله في موضع غير شائن فهو من صفوة الله في خلقه، وقال: إذا أبردتم إليّ بريداً، أو بعثتم رسولاً، فليكن حسن الوجه حسن الاسم، والرسول عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.. وربطه بين الاسم والصورة الظاهرة للإنسان فيه دلالة على قيمة الاسم، بالإضافة إلى أن في ذلك إشارة إلى الاهتمام باختيار اسم المرء، باعتبار الاسم والمظهر الخارجي فيهما ما يدل على الصورة الباطنة التي هي الأخلاق، وقد قيل: الألقاب تنزل من السماء والمرء له من اسمه نصيب وأقبح الناس من كان اسمه حسناً وفعله قبيحاً، وقال الإسكندر لأحدهم: وكان حسن الاسم قبيح السيرة إما أن تغير سيرتك أو اسمك. والواقع أن اسم الإنسان هو أفضل مفردة في اللغة تصل إلى سمعه، بوصف الأسماء تمثل مفاتيح القلوب، حيث يتم من خلال معرفتها التعرف على أصحابها، وبالتالي تقود هذه المعرفة إلى معرفة أبعد، إذ يترتب عليها بناء علاقة تتطور مع الأيام حتى تصل إلى صورة من صور المودة القائمة على الترابط الاجتماعي والاهتمام بالبعد الإنساني. وبمعنى أكثر دقة فإن الإنسان السوي يألف اسمه إلى الحد الذي يجعله يرى نفسه من خلاله حتى يصل به الأمر إلى أنه لو دعي بغير اسمه ظن أنما دعي غيره لأن الاسم يعني له نفسه، ومن هذا حاله فإنه ينظر إلى الكنية على أنها نابعة من الاسم ومضافة إليه. وكما أن معرفة الأسماء هي المدخل والسبيل إلى معرفة أصحابها وبناء جسور العلاقة الإنسانية معهم، فإن تجاهل ذلك يعتبر من الأسباب الداعية إلى الجفاء، حيث إنه عندما يتقابل شخصان ثم يفترقان دون أن يعرف كل منهما اسم الآخر، يؤدي سلوكهما إلى ما يمكن أن يطلق عليه دعوة صريحة إلى التباعد والجفاء بدلاً من أن تكون المقابلة وسيلة للتقارب والتآلف. والإنسان مهما كان واثقاً من نفسه ويشار له بالبنان فإنه يبقى نكرة، ما لم يكن معروفاً عند أولئك الذين فرض عليه الموقف التعامل معهم، ومعرفته تبدأ من معرفة اسمه نظراً لأن معرفة الاسم هي المفتاح لمعرفة الآخرين له، الأمر الذي ينقله من واقع المجهول إلى واقع المعلوم، هذا الواقع الذي يتطلب منه إبراز كل ما عنده من المناقب ليظهر بالمظهر اللائق، كما أن حرصه على أن يكون معروفاً من قبل الغير يواكبه حرص آخر على معرفتهم لكي يكتمل طرفا المعادلة. وبقدر ما تنطبق هذه المعادلة في الحياة العامة بقدر ما تكون ضرورة لا غنى عنها في العمل وممارسة المهن، حيث إن معرفة أصحاب المراتب والرتب الأعلى لمن هم دونهم ومناداتهم بالأسماء ينتج عن هذه المعرفة الكثير من الفضائل، بوصف ذلك يشكل قاعدة أساسية للتعارف بين الجميع وبالتحديد معرفة الأعلى للأدنى، وما يعنيه ذلك من الاعتراف به وتمييزه عن غيره وجعله يشعر بأهمية نفسه، إذ إن الإنسان عادة يبذل كل ما يستطيع من جهد في سبيل الظهور بالمظهر الجميل وإعطاء الصورة الحسنة في البيئة التي يُعرف فيها، وأمام أولئك الذين يهتمون به ويقدرون عمله. ونظراً لأنّ الاسم هو المنطلق لعملية التعارف بين الناس فإنه من الملاحظ أن الشخص اللبيب عندما يقابل شخصاً آخر يعرفه، ولكن غاب عنه تذكر اسمه لانقطاعه عنه فترة طويلة، فإنه يحاول أن يستدرجه بأسئلة معينة لعله على ضوء الإجابة عليها يتذكر اسمه، ويتكرر هذا الموقف عندما يتصل شخص بآخر لم يسجل اسمه ورقم هاتفه رغم أنه يعرفه، ولم تسعفه الذاكرة على تذكر اسمه، مما يضطره إلى محاولة التعرف عليه دون أن يسأل عن اسمه، خوفاً من أن يعرف المتصل أنه لم يتعرف عليه أو نسي اسمه، وما يعنيه ذلك من أمور مجافية للأدب وحسن التعامل. ومن الواضح أن الأسماء تتأثر وظيفتها بسبب طغيان الكنى عليها، حيث استفحلت هذه الظاهرة في المجتمع إلى درجة أن بعض الجيران وجماعة المساجد تقتصر معرفة بعضهم البعض على الكنى أكثر من الأسماء، الأمر الذي تكون معه عملية التعارف ناقصة نتيجة لهجر الأسماء والتجني على وظيفتها وإحلال الكنى محلها. وكما أن الكنية تكون في أجمل حالاتها وأفضل استخداماتها عندما يشتهر بها الشخص المعروف ويذكر بها في غيابه، فإن مخاطبة الرجل بالكنية من الأمور المحبذة لما تنم عنه من تقدير واهتمام خاص، ورغم أنها تعتبر رديفة للاسم إلا أنه ليس من المقبول الاكتفاء بمعرفتها دون معرفة الاسم، أو إحلالها محل الاسم في مواقف لا يستغنى فيها عن الاسم مثل التعريف بالشخص والمواقف التي يغلب عليها الطابع الرسمي، حيث إن مخاطبة الرجل بكنيته يتعين أن تكون في أضيق نطاق وضمن محادثة خاصة ذات طابع احتفائي. والإفراط في التخاطب بالكنى غير محبذ، والوسطية في ذلك مقبولة، ولكن الأمر المستهجن والممقوت هو أن يكني المرء نفسه، كما هو الحال بالنسبة لأولئك الذين سلبهم الجهل نعمة العقل ومَنْ على شاكلتهم من ضعاف النفوس الذين يجدون في مناداتهم بالكنى متعة نتيجة لما يعانونه من مركبات النقص، حتى أن بعضهم يظهر عليه الامتعاض عندما ينادى باسمه، دون أن يدرك بأن المناداة بالاسم هي التي تجسد هويته، وتفتح الباب نحو التعرف على شخصيته. وعلى الجانب الآخر فإن الألقاب سواءً منها ما يكون للتعريف أو التشريف، فإن المطلوب الاستفادة منها لزيادة تأثير الشخصية واتساع دائرة محيطها دون الخروج عن هذه الدائرة في اتجاه عكسي إذ إن الاتجاه المعاكس يكون فيه امتهان للقب نتيجة لاستخدامه في غير مكانه، فالكتابة والشعر والرسم والرياضة وما في حكمها، كلها فنون تهدف إلى تنمية الشخصية وزيادة تأثيرها يتخذ منها من يزاولها ألقاباً يضيفها إلى اسمه في مواقف خاصة وحالات معينة. والشخصية تكتسب تأثيرها في الآخرين بفضل مهارة صاحبها في مهنته وما يتمتع به من موهبة، يمارسها في مناشط خارج المهنة، حيث إن التفوق في العمل عندما يصحبه تفوق آخر في فن من الفنون ينعكس على السمعة ويزيد في الشُهرة، واللقب المرتبط بالمهنة يلازم اسم حامله داخل إطار مهنته ضمن حدود التعريف، أما اللقب الذي يُحصل عليه بسبب الموهبة فيظهر في موقف دون آخر. وتأسيساً على ذلك فإنه مما يدل على ممارسات النشاز ويدعو إلى الاشمئزاز أن هناك من جعل من الموهبة مطية يمتطيها نحو الظهور المزيف والدعاية المزورة بصورة ينفر منها الطبع ويمجها السمع، جاعلاً من اللقب اسماً ملازماً لاسمه كما هو الحال بالنسبة لبعض شعراء الشعر الشعبي الذين استغلوا هذه الموهبة استغلالاً خاطئاً، متخذين منها مهنة ومن لقب الشاعر اسماً، يتسمّون به في مناسبة وبدون مناسبة، بدلاً من أن ينظروا إلى الشعر كموهبة يكتنف التسمية بها وإطلاق لقبها قيود وحدود. ولو نظرنا إلى ألقاب التشريف لظهر لنا العجب العجاب وخاصة لقب الشيخ حيث إننا إذا استثنينا كبار السن وشيوخ الدين فإن هذا اللقب أصبح هدفاً لمن هبّ ودبّ إلى درجة أنه صار لقب مَنْ لا لقب له بالادعاء الكاذب وليس بالاستحقاق الواجب، رغم أن هذا اللقب في الوسط القبلي يستمد وجوده من أمرين: أحدهما أنه موجود بالتوارث حيث يجري توارثه من سلف إلى خلف، وذلك لمن يشهد حاضره على ماضيه، والأمر الثاني أن الدولة اعترفت بهذا اللقب، باعتبار حامله من أسرة كريمة ذات مكانة ولها قدم صدق في خدمة الدين وولاة الأمر. وحامل لقب شيخ القبيلة في هذا الزمن فرض عليه الأمر الواقع أن يكون بين ضعف الانتماء القبلي وتراجع دور هذا الانتماء، وبين عدم معرفة البعض لمسؤولياته وما هو مطلوب منه تجاه وطنه وولاة أمره وقبيلته، وحتى يتم التغلب على هذه المعضلة يتعين أن تتوفر في مَنْ تُمنح له هذه الألقاب إمكانات عقلية وقدرات ذهنية خاصة ليتسنى لهم تأصيل وتفعيل اللقب على نحو يجعل الانتماء القبلي يؤدي دوره في الاتجاه الأفقي والرأسي من خلال التكيف الأفقي مع الانتماءات الجانبية المماثلة وتسخير الجهد لدعم الانتماء في الاتجاه الرأسي نحو الوحدات الانتمائية الأعلى وصولاً إلى الانتماء الوطني. وأكثر الألقاب امتهاناً في هذا الزمن هو لقب الشيخ على مستوى الانتماء القبلي، وذلك لكثرة من يتطفل على هذا اللقب الذي يتسابق عليه الكثير من الأخيار والأشرار في سبيل تغطية مركبات النقص وتحقيق مآرب شخصية بعيدة كل البعد عن أهداف اللقب وغاياته، حتى إن بعض من حالفه الحظ للحصول عليه اتخذ منه وسيلة لخدمة مصالحه الذاتية وأغراضه الدونية، غائباً عن ذهنه أن الألقاب الموروثة والمزايا الممنوحة لا تشفع لمن ذهبت به الأثرة البغيضة والأنانية الممقوتة إلى حد يجني معه على ذاته ولقبه بسبب عدم الثقة في نفسه، وحشرها ضمن المتطفلين الذين يطردون وراء سراب بقيعة. وفي الختام فإنه من المجافي للذوق والمنطق والمنافي للآداب السوية والأعراف المرعية أن يُكنّي الإنسان نفسه أو يلقبها، وإنما يُكنّيه ويُلقبه غيره، والكنى والألقاب لها ضوابطها التي تضبط استخدامها في إطار يراعي عملية التعارف بين الناس ويحترم حرمة الأسماء مع التمييز بين ألقاب التعريف وألقاب التشريف واستخدام كل منها الاستخدام المريح بالشكل الصحيح.

مشاركة :