«الشرق الأوسط» في مهرجان برلين السينمائي (2): ثلاثة أفلام حول شخصيات من الواقع والخيال

  • 2/23/2020
  • 00:00
  • 18
  • 0
  • 0
news-picture

يضيق الخناق على حرية التعبير ليس شرق وجنوب أوروبا فقط بل في أوروبا ذاتها. حتى حين ليس بالبعيد كان من المحتمل، بل من المطلوب، التعبير عن رأيك في مسائل اجتماعية ولكل موقفه. قد توافق. قد تعارض. لكنك لن تتصدى وتصدر البيانات وتهدد سلامة وصيت المهرجان الذي حدث أنه اختار الشخص الذي أبدى رأيه بشجاعة. قبل يومين قام رئيس لجنة التحكيم، الممثل المرموق جيريمي آيرونز بمواجهة الإعلام بموقفه من قضيتين كانتا أثيرتا مجدداً حال إعلان مهرجان برلين عن أن الممثل البريطاني سيكون رئيساً للجنة الدورة 70. إنه لقاء صحافي معتاد يقيمه المهرجان لكل لجنة تحكيم يتحدث فيه أعضاؤها عن مدى سعادة كل منهم بأنه منضم إلى هذه المجموعة من الفريق الذي سيؤول إليه اختيار الفائزين في نهاية أيام المهرجان الحافل. بعد إبداء معالم السعادة توجه الصحافيون بأسئلتهم المعتادة إلى الأعضاء وخصوصاً إلى رئيس لجنة التحكيم ومنها «ما رأيك بالسينما الألمانية اليوم؟»، «حضرت دورات المهرجان أكثر من مرّة فما هو انطباعك عن المرات السابقة؟» وأي كلام عام يعتقد السائل بأنه يستحق الطرح. - ارتكب رأياً هذا العام هناك ما هو مختلف. فجريمي آيرونز كان صرّح قبل سبع سنوات بأنه معاد لزواج المثليين وذلك في حديث نشرته صحيفة Huffington Psst. في سنة 2016 قال إنه ليس ضد الإجهاض لكنه ليس - كذلك - ضد إدانة الكنيسة الكاثوليكية للإجهاض. من كان يدري أن هذين الرأيين المعتدلين في الواقع سيظهران مجدداً حال إعلان اختياره رئيساً للجنة التحكيم لتطوف فوق رأس المهرجان كسحابة داكنة فيخشى المهرجان رد فعل القوى المتطرفة ويطلب من آيرونز توضيح الأمر في لقائه الأول مع الصحافة؟ آيرونز فعل ذلك واضعاً النقاط فوق وتحت الحروف: «أؤيد من كل قلبي حق المرأة المطلق في الدفاع عن نفسها ضد التحرش والتعنيف في البيت وفي العمل. وأؤيد حق المرأة في الإجهاض إذا ما اختارت ذلك». بالنسبة لزواج المثليين، قال إنه «يصفق» لهذه المسألة و«يتمنى لها» دوام الانتشار. هل ارتاحت جماعات التحقق والنبش في الماضي التي تدخلت في السنوات الأخيرة أساساً ضد فنانين ارتكبوا «رأياً» في السابق أو اتهموا بموقف يعادي ما يؤمنون به؟ هل يمكن لنا الآن أن نستمتع بالأفلام المعروضة (التي تحتوي في مسابقتها على تكتل نسائي محترم من باب الدفاع ضد تهمة عدم تقديم أفلام من إخراج نساء) ونرتاح من فتح ملفات الفنانين وإجبارهم على تغيير مواقفهم حتى المعتدلة منها؟ ربما بات هذا شرط من شروط إظهار القوّة السياسية التي يتمتع بها المتطرفون من الجهتين. هو تطرف لا يقل ضراوة عن أي تطرف آخر نجح مهرجان «فينيسيا» (كما أشرنا في سبتمبر (أيلول) الماضي) بمواجهته عندما أكد إن عدم اختياره لأكثر من فيلمين من إخراج امرأة (هما فيلم هيفاء المنصور «المرشحة المثالية» وفيلم شانون مورفي «بايبيتيث») في المسابقة يعود إلى أنه لم تكن أفلام تستحق. وضع رئيس المهرجان ألبرتو باربيرا الحقيقة أمام المعترضين فسكتوا! - عالم مجاور وسط مشاغل كهذه وأكبر منها يقدّر المرء ترفيهاً جيداً يبعده عن التفكير بما يمر به العالم من أزمات بعضها معكوس على شاشات بعض الأفلام التي تعبر سماء برلين في أكثر من قسم. الفيلم المعني بذلك هو «أونوورد» (Onward) هدية شركة بيكسار المتخصصة في سينما الرسوم إلى من يبحث عن البسمة الراقية والنهاية السعيدة غير الساذجة. إنه الفيلم الثاني والعشرين الذي أنتجته الشركة منذ ولادتها قبل 25 سنة. ابتاعتها ديزني قبل نحو سبع سنوات للتخلص من منافستها لأفلامها الكرتونية، لكنها وافقت على أن تترك لها حرية العمل بمقتضى منهجها الذي بات متميزاً ليس بموضوعاته (التي تختلف قيمة من فيلم لآخر) بل بصياغتها الفنية والأسلوبية. «أونوودز» ليس Cars الذي شحن مشاهدي اليوم بذكريات الأمس وليس WALL‪ - ‬E الذي أدلى بدلوه حول قضايا البيئة المهددة. رغم ذلك، هو من صميم فن بيكسار ويتمتع بسلاسة أسلوبها الفذ. حكاية بحث لشقيقين جنيين عن والديهما وما يعترض ذلك من أحداث ومعيقات وخطورة. الموضوع ليس بعيداً عن حياة المخرج دون سكانلون الخاصة، فهو وشقيقه فجعا بوفاة والديهما وكان دون ما زال ولداً صغيراً. تأثير أبيه على نشأته صاحبه وعبّر عنه في «أونووردز» لكنه لم يسرد حكاية شخصية أو مال إلى سيرة ذاتية. حكاية هذا الفيلم تنطلق، من بعد تقديم شخصيّتيه وتأسيس المكان الذي يعيشان فيه، للبحث في عالم مجاور في غرابته بعدما تسلم الشقيق الأصغر (توم هولاند) هدية من والده عليه أن يجرّبها. ليست هدية سهلة بل بداية رحلة يعتقد دون إن القيام بها سيعزز قدراته الذاتية بعدما أدرك أنه يفتقد الثقة بالنفس. مثل حكايات «جومانجي» إنما من دون بلاهتها المتعمدة، يسبر «أونووردز» معالم المجهول الذي ينتقل إليه دون وشقيقه (كريس برات) من زاوية البحث عن أمس أفضل من اليوم. أساساً، وفي الجزء السابق للرحلة، نجد الأخ الأكبر يحاول الدفاع عن تاريخ القرية المهدد بسبب التقدم الاجتماعي. هذا البحث في الماضي، ماضي الأب من جهة وماضي الحياة ذاتها من جهة ثانية، يستمر كاشفا النقاب عن ذلك الشعور المفعم بحب الأمس الذي نلاحظه في معظم إنتاجات بيكسار السابقة من «توي ستوري» إلى «سيارات» ومنها إلى «وول - إ» وهذا الفيلم. تصميم الفيلم فنياً (قام به نواه كلوشك المنتمي إلى فريق الشركة) بديع، لكن الحكاية المعروضة، رغم النوستالجيا الذي تحتويه وشخصيات مختلفة تمر الحكاية بها، أقل قيمة من حكايات سابقة لبيكسار. في مجمله ليس بقوّة أفلام الشركة السابقة لكنه ما زال يحمل متعة للصغار ولبعض الباحثين عن شيء يجلب البسمة بين الكبار. - حكاية أنطونيو المجهول في الرسم أيضاً، لكن هذه المرّة عن الرسام وليس الفورمات التي تنتمي الحكاية إليها، نجد فيلم المساقة «مخبوء» للمخرج جورجيو ديريتي الذي يحسن الالتفات إلى رسام أهملته الأيام أسمه أنطونيو ليغابو المولود سنة 1899 والمتوفى سنة 1965 بعد حياة مليئة بالمعاناة. وُلد في زيوريخ وانتقل صغيراً بعد وفاة والدته (ذات الأصول الإيطالية) وثلاثة من أبنائها في حادثة تسمم إلى رعاية عائلة أخرى. هذه الرعاية فقدت أسبابها عندما أقدمت أمه بالتبني على طلب تهجيره إلى إيطاليا. هناك وجد نفسه وحيداً لا من حيث تصرفاته المتوترة والحادة فقط، بل من حيث إنه لم يكن يعرف الإيطالية مطلقاً. نجد ذلك في الفيلم وندرك أن بعض توتر وحدة تصرفات أنطونيو (قام بدوره ممثل مشابه للشخصية ذاتها اسمه إيليو جرمانو) يعود إلى هذا الحصار الاجتماعي الذي شعر به وفقدانه الغطاء العاطفي الذي حُرم منه باكراً. دفاعه عن نفسه المأزومة وعدم إجادته الإيطالية دفع به مراراً. كما يوضع الفيلم، إلى صوت «جعير» غير مفهوم وعداء دائم للجميع. أكثر من مرّة يستبدل أنطونيو الكلمات بالأصوات التي يستلهمها من البقر والحيوانات التي اعتاد مشاهدتها في الريف. وهناك مشاهد لألفته مع تلك الحيوانات والطيور (بط ودجاج وبقر) التي جعل من بعضها أجزاء من لوحاته ومنحوتاته. بعض تلك اللوحات والمنحوتات هي لحيوانات لم يرها في حياته كالأسود والضباع عرضها وسط استهزاء العامة وتقدير بعض الباحثين عن الفن المنسي أو المجهول (حالة وردت في الفيلم الروسي الأفضل كثيراً «بيروسماني» للمخرج جيورجي شينغيلايا سنة 1969). «مخبوء» (Hidden Away) يسرد سيرة حياة يرمم بها فناناً مغموراً من دون تقييمه. ما نشاهده له من رسومات تبدو انطباعيات بدائية التكوين وبلا فن. يسجل الفيلم أن رأي بعض المحتفين به كان مخالفاً وأن حياة أنطونيو ليغابو بقيت غير مستقرة نفسياً وعاطفياً حتى موته. ومع أن ليس كل من أمسك بالريشة أو امتلك هواية فنية وكان مصاباً بحالة نفسية هو عبقري (كما كان حال فان غوغ مثلاً)، إلا أن غاية المخرج الإيطالي جيورجيو ديريتي هي إلقاء نظرة تعاطفية وتفاهمية على تلك الشخصية التي لا نعرف عنها داخل الفيلم أكثر مما يعرضه المخرج علينا. يبدأ المخرج فيلمه بمطرقة مونتاجية لبطله شاباً تزوره الذكريات التي تتقاطع ومشاهده الآنية على الشاشة. ويواصل حمل مطرقته هذه بأسلوب عرض مدهم وخال، مثل لوحات بطله، من التأمل أو البحث الفني الموازي لأي بحث آخر. إنه فيلم تقريري يوجهك صوب ما يختاره المخرج من معلومات ومن تكوين شخصية وتركيب نفسياتها. لقطاته قصيرة ومشاهده كذلك خصوصاً في الساعة الأولى من العرض. فيما تبقّى (نحو 50 دقيقة أخرى) يسمح الفيلم لنفسه بمساحات أكثر هدوءاً، ولو أنه يواصل اختيار مشاهد لا علاقة فعلية لها بالحدث أو لا تضيف شيئاً لما سبق مثل مشهد لحاق الرسام بصرصار وجده في غرفته مراقباً ومشهد ارتدائه لباساً نسائياً. المخرج لم يوح سابقاً بسبب ولا منح مشاهديه نتيجة أو إيحاء فيما بعد ذلك المشهد. هذا ممنهج بسيناريو (وضعه المخرج مع تانيا بدروني وفريدو فالا) يعترف بأنه مبني على حياة الرسام من دون أمانة (بحرية) مما يجعل المشاهد يتساءل عما قد يكون فعلياً وعما قد لا يكون. إنه مثل التساؤل حول السبب الذي لجأ الفيلم إلى تصوير (قام به ماتاو كوتشو) بعض المشاهد بأطر خارج «الفوكاس» دون أخرى. لن تكون هناك مفاجأة فيما لو خرج الممثل إيلو جرمانو (عمد إلى التمثيل منذ 1993) بالدب الذهبي كأفضل ممثل رجالي، لكنها ستكون مفاجأة لو فاز الفيلم بمثيلها مع نهاية المهرجان. - بذور الهجرة والاستثمار كَلي رايشهارت نوع من المخرجين الذين ينقبون عادة عما يقع في الهامش وليس في المتن الأساسي للحياة. الغرب الأميركي بالنسبة لها لم يكن مرتع اكتشاف ومغامرة وحروب أو حتى حياة طبيعية لأي عائلة انتقلت إلى هناك لكي تبني لنفسها ركناً جديداً في عالم جديد. في سنة 2010 قدّمت فيلمها «اختصار ميك» (Meek‪’‬s Cutoff) في مهرجان فينيسيا واستحقت ما نالته من إعجاب. حكاية مجموعة من المهاجرين صوب الغرب الأميركي الشاسع من دون بوصلة تحدد لهم اتجاههم ما يعرضهم لمخاطر لم يعتادوا عليها من قبل. حققت بعده فيلماً تشويقيياً بعنوان «تحركات ليلية» (Night Moves) سنة 2013 وتبعته بفيلم درامي «نساء محددات» (Certain Women) بعد ثلاث سنوات أخرى. في فيلمها العاشر هذا (شوهد في نيويورك) تعود إلى ذلك الغرب وكيف بدأ. بطلها كوكي (جون ماغارو) لاجئ من الشرق باحثاً عن حياة جديدة في الغرب. طبّاخ (لذلك سمّوه كوكي). هو يدوس على أرض (ما أصبح لاحقاً ولاية) أوريغون ويتعامل بتهذيب ولطف مع كل ما يلتقيه، بشراً كانوا أو غير بشر. عيناه تتسعان لما يراه وتتسعان أكثر عندما يلتقي بالمهاجر الصيني كينغ - لو (أوريون لي) إذ حسبه من المواطنين الأصليين للبلاد قبل أن يعلم إن كينغ آت من الصين البعيدة. لاحقاً ما نعلم أن كينغ هارب من حادثة قتل ويريد أن يبدأ حياة جديدة كحال كوكي تماماً. سبب آخر لدهشة كوكي عندما شاهد كينغ للمرة الأولى هو أن كينغ كان يجثم عارياً في بعض الأحراش. ينقذه من البرد والجوع ويخفيه في أمتعة القافلة التي كان انضم إليها كطبّاخ. من هنا تنبع أواصر صداقة طبيعية بين الاثنين ولو أن هذا اللقاء يقع بعد قرابة ساعة على بداية الفيلم نفسه بعضها ضائع في ترجمة أحاسيس المخرج بالمكان والتقديم المفرط في بداهته لكوكي. أساساً ما يبدأ الفيلم بحدث حاضر: امرأة وكلبها يكتشفان هيكلين عظميين في حفرة قبل الانتقال إلى الحكاية التي نراها. في بحث الصديقين عما قد يمنحهما مستقبلاً مادياً يقرران (مع بعض ممانعة من قبل كوكي) سرقة حليب البقر وصنع قطع البسكويت منها. المشترون يحبون طعم المنتوج وأحدهم بريطاني مهاجر يقول إنها تذكره بلندن. بعد ذلك لا حذر يذكر من التمدد في هذه الصناعة القائمة على سرقة الحليب وإعادة تكوينه وبيعه. اهتمام المخرجة رايشهارت بالغرب في حقبة تكوينه الأولى مرتبط، في هذا الفيلم وفي «اختصار ميك»، بالشخصيات التي عاشت فترة ما قبل الحضارة التي أصابت الغرب الأميركي. تدين هذه النقلة بنعومة أكثر مما يدينها المخرج الراحل سام بكنباه. كذلك فإن اهتمامها هنا منصب على كيف نشأ الاستثمار المادي وبذور الرأسمالية، لكن من دون حدّة وجودة عرض روبرت التمن في «ماكاب ومسز ميلر» (McCabe and Mrs‪.‬ Miller) للموضوع نفسه. تحيك المخرجة فيلمها ليس اعتماداً على أحداث كبيرة، بل على مشاعر ومفادات. تبني فيلمها على ما هو مهمّش ومهمل من الطرح المعتاد في أفلام الغرب. بطلاها ليسا شخصيّتين تثيران الإعجاب إلا لبعض براءة كوكي ومفهوم كينغ للحياة. إنهما لصّان صغيران في بداية عهد أميركا بالرأسمالية التي توحي المخرجة بأنها اللص الأكبر الذي تطوّر لما نحن عليه اليوم. هما بذلك ضحيّتان واكتشاف عظامهما مركونان في حفرة تظهر فجأة للعيان (وطريقة تصوير الحفرة التي يتطلب من المشاهد إمعاناً قبل أن يتبيّن ما يراه) هو نوع من رغبة المخرجة تقديمهما على هذا النحو كشخصيتين لا أهمية لهما خارج إطار الحكاية التي سننتقل إليها. ما يرد هنا هو تصوير جيد وجميل وملاحظات حياة أمينة لتفاصيلها، لكن الكثير من الوقت الفاصل بين كل تطوّر فعلي وآخر ما يجعل الفيلم أطول مما كان يمكن له أن يكون.

مشاركة :