لكل شيء ثمن، وفيروس كورونا الجديد هو ثمن الدخول في اللعبة العولمية، التي تنطوي على جملة مكاسب ليس أقلها الاستفادة من عطاءات التقنية، وسبل الإشهار المختلفة، ناهيك عن كون اهتماماتنا وانتمائاتنا صارت أوسع وأعمق مما كانت عليه قبل ذلك؛ فلم نعد محصورين في بقعة جغرافية بعينها، ولا مهتمين بعدة قضايا محلية أو حتى إقليمية، بل صارت اهتماماتنا، ككوارثنا، عولمية. وعلى الرغم من هذه المكاسب، ومن أن الأرض أمست “مسطحة” (توماس فريدمان)، فإن هناك جملة من الخسائر والكوارث الكونية، التي يتعرض لها سكان مجرتنا الأرضية دفعة واحدة، ولعل “كورونا” هو التجلي الأمثل لهذه الكوارث. ومما يشير إلى عِظم هذه الكارثة أن عدد ضحايا فيروس كورونا الجديد بلغ _ وفقًا لآخر إحصائيات لمركز Johns Hopkins CSSE _ إلى 2701 ضحية، فيما بلغ عدد حالات الإصابة المؤكدة 80243 حالة؛ إذ وصل الفيروس، خلال هذا الأسبوع، إلى عدة بلدان جديدة في الشرق الأوسط، فبعد الإمارات تم الإعلان عن حالات إصابة مؤكدة في البحرين، الكويت، سلطنة عمان، العراق، مصر، ولبنان. وهو أمر يؤكد أن الكارثة باتت معمة، وأن مصير الكوكب ومستقبله بات على المحك فعلًا، فلم يعد الأمر قاصرًا على الحروب والنزاعات، بل صرنا نواجه خطر فيروس قاتل، دون أن يكون بحوزتنا مصل ناجح للوقاية منه، يمتلك تأثيرًا سلبيًا في مجمل العملية الاقتصادية على مستوى العالم. ولقد كان الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني “أولريش بيك” على حق، حين وصف مجتمعنا العالمي الحالي بكونه مجتمعًا مخاطرًا، بيد أن ما لم يلتفت إليه “بيك” أن أحدًا منّا لم يعد قادرًا على حماية نفسه من هذا الخطر الداهم، فأين يممت وجهك فالفيروس أمامك، أو سيلحق بك عمّا قريب.الاقتصاد على المحك من الجليّ بذاته، أن الاقتصاد الصيني هو ثاني اقتصاد في العالم، وأن إجمالي مساهمته في الاقتصاد العالمي تُقدّر بحوالي 19 %، بيد أن الخوف ليس على الاقتصاد الصيني وحده، وإنما على اقتصادات دول العالم جميعها، لاسيما في ظل استمرار إغلاق كثير من المصانع والمراكز المالية في مدن الصين الكبرى، وهو ما يعني العجز عن تسليم الطلبيات إلى الخارج. ويظهر تأثير فيروس كورونا الجديد على الاقتصاد العالمي، في أمور شتى من بينها: تعثّر المصانع الصينية في العودة إلى سابق عهدها؛ وذلك نظرًا لعدم إمكانية عودة العمال المهاجرين، أو نظرًا لصعوبة الحصول على المواد الخام التي يتطلبها الإنتاج، ناهيك عن إجراءات الحجر الصحي، وإغلاق المجال الجوي، وكلها أمور تلقي بآثار كارثية على الاقتصادين الصيني والعالمي، على حد سواء. والكارثي في الأمر، أن هناك الكثير من الشركات العالمية تعتمد على سلاسل الإنتاج الصينية، ومن ثم فإن عدم تعافي ثاني اقتصاد في العالم، يعني أن الأزمة لن تكون حبيسة الحدود الصينية؛ بل ستتجاوزها إلى الخارج. اقرأ أيضًا: فيروس كورونا الجديد يُطيح بالأسهم العالمية.. خسارة 1.73 تريليون دولار في يومالتبادل التجاري يُقدر حجم التبادل التجاري بين بكين والدول العربية بحوالي 126.7 مليار دولار، في حين تصل واردات الصين من الدول العربية إلى 59.9 مليار دولار، أما عن صادرات الصين إلى الدول العربية فيقدر بحوالي 56.8 مليار دولار. ونظرًا لتوسع التنين الصيني، ومحاولته الاستئثار بأكبر قدر من كعكة الاقتصاد الكونية، فقد أمست الصين، خلال السنوات القليلة الماضية، أهم شريك تجاري لكل الدول العربية، باستثناء دول المغرب العربي؛ فحجم التبادل التجاري بين الطرفين، خلال العامين الماضيين، زاد عن الـ 240 مليار دولار سنويًا، مقابل 190 مليار دولار عام 2011 و40 مليار دولار عام 2004. الاقتصاد الصيني السعودي تعتبر الصين الشريك التجاري الأكبر للمملكة؛ إذ بلغت قيمة واردات المملكة من الصين، خلال العام الماضي، أكثر من 46 مليار دولار. ناهيك عن كون الصين أكبر سوق للنفط في العالم، وتليها المملكة، بصفتها ثاني أكبر مصدر للنفط لبكين، بعد روسيا. وقبل حدوث أزمة هذا الفيروس الجديد، كانت شركة أرامكة السعودية أعلنت عزمها توقيع اتفاقيات أولية للاستثمار في مجمعين لتكرير النفط والبتروكيماويات بشمال شرق الصين. وكانت أرامكو قد اتفقت على بناء مصفاة لمعالجة 400 ألف برميل يوميًا من الخام، بالإضافة إلى منشأة لإنتاج مليون طن من الإيثيلين سنويًا في الصين. بيد أنه من المحتمل أن يُلقي هذا الوباء العالمي بظلاله على هذه الاستثمارات الضخمة، وفرص وحجم التبادل التجاري بين البلدين. اقرأ أيضًا: شركة «سابك» تتبرع بـ 8 ملايين يوان لمكافحة «كورونا»كوكب الأرض في خطر ذات يوم كتب “ليستر ر. براون” كتابًا ذا عنوان لافتٍ “إنهاك كوكب الأرض”؛ لكن ألم يعد من المجدي الآن الحديث عن إنهاك إنسان كوكب الأرض؛ وإلا فهل ثمة كائن على ظهر البسيطة أكثر معاناة من هذا الإنسان التاعس ومنكود الحظ؟! ألم نمت مرارًا، ألم تُبعثر الحروب والصراعات أشتاتنا آلاف المرات؟! ألا يجدر بكل أولئك المتحمسين لنزعة الـ Homocentrism أن يعيدوا النظر في أولوياتهم من جديد؟ وأن يدركوا أن إنقاذ الإنسان لن يكون إلا عبر إنقاذ كل كائنات وموارد هذا الكوكب الفقير جدًا. هذا بالضبط ما كان يقصده “ليستر ر. براون”؛ فكما أن الموت أمسى جماعيًا فإن النجاة لن تكون إلا جماعية؛ إذ لن ينجو أحد وحيدًا مهما حاول، ومهما بذل من جهود. يمكن القول، وببعض الثقة، إن أزمة فيروس كورونا الجديد من أخطر الأزمات التي تهدد العالم إن لم تكن أخطرها؛ فالأمر هنا ليس متعلقًا بكساد اقتصادي كما حدث في العالم 2008، وإنما انتقل التهديد من الاقتصاد إلى الإنسان، ومن هنا كل ما يتعلق بالإنسان بات في خطر محدّق. اقرأ أيضًا: خسائر مُحتملة لـ«سامسونج» بعد إغلاق مصنع لها بسبب «كورونا»
مشاركة :