لربما لم يعد يختلف اثنان اليوم على أن منطقتنا العربية إجمالاً، وفي مقدمتها الشأن الفلسطيني، تتجه نحو المزيد من الانهيار السياسي والتشظي العسكري، وارتهان في الإرادة، وتهديد في السيادة والأرض والديموغرافية... وباختصار تنبئ أحداث عالمنا العربي عمومًا بتراجع شامل وخطير في قوة الدولة الوطنية والقومية، وتراجع أخطر في وعي وإرادة الشعوب... وهذا أقل ما يوصف به حال الأمة اليوم.وإن كان لا بد من مقدمة لهذا الحديث فإنها يجب أن تبدأ بتشخيص الأسباب، والدوافع، والأمراض السياسية والاجتماعية العربية، التي أدت، ولازالت تؤدي، إلى اختراق كل شؤوننا الداخلية، ومهدت، ولازالت تمهد، الطريق أمام كل ما نسميه اليوم تدخلا خارجيا دون رادع، ومشاريع إقليمية ودولية على خريطة هذا الوطن العربي دون وازع. علينا أن ننطلق من تلك البدايات التي لم يستدركها السابقون ولم يدرسها اللاحقون، فساهموا جميعًا بوضع العصى في العجلة، وإسقاط عربتنا، وعروبتنا، في تلك الهوة السحيقة التي تراكمت عليها الأحداث المتتالية حتى باتت خافية عن الأنظار، فلا يتحدث عنها أحد اليوم، رغم إن تلك العربة لاتزال تحمل في داخلها قوة كامنة قادرة على ضبط معادلة المنطقة، وإن تمكنا من إصلاحها صَلُحَ شأننا العربي، وإلا فإن كل ما نقوم به حتى اليوم هو أننا نراكم الأحداث الجسام دون حلول، ونراكم الصراعات على بعضها حتى باتت تشكل عبئًا عربيًا، واختراقًا دوليًا، يزيد من تفاعل الأمراض والأوبئة السياسية والدمار في كل الأرض العربية.ولتفسير هذه المقدمة البسيطة، سأبدأ من أكثر القضايا خطرًا، وتأثيرًا على حاضر ومستقبل هذه الأمة، وهي قضية صفقة القرن؟؟!!الصفقة الكارثة، والأكثر إهانةً للعقل والقلب العربي، والأكثر قسوة على الضمير الإنساني، ببنودها وما بين سطورها وبالطريقة التي أعلن عنها.الصفقة الأكثر مذلة لواجهات عربية أعلنت استسلامها لها، والأكثر لا إنسانية في أدوات وأسلوب فرضها على الشعب الفلسطيني، والعرب كافة؛ صفقة ينضح منها جبين العرب خجلاً. هذه الصفقة التي تعتبر جوهرة المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط... المشروع الذي خُطط له في ثمانينات القرن الماضي وبدأ تنفيذه مباشرة بعد سقوط النظام الدولي وتزعم الولايات المتحدة قيادة العالم، 1989؛ مشروع الشرق الأوسط الجديد.هذه الصفقة هي حركة لقطعة الشطرنج ما قبل الأخيرة في منطقتنا، التي إن تم تثبيتها على الرقعة الجيوبولوتيكية العربية فستليها حركة السقوط الأخيرة (كش ملك)... لصالح صعود دويلات الطوائف والإثنيات والعصبيات المدمرة... كي لا تقوم للعرب قائمة. لربما نحن نسمع ونقرأ كل يوم من يستهزئ بهذه الرؤية السلبية حول الصفقة... ومَن يعتقد أنه لازال يحمل بيده صولجان السلطة والقوة، الذي سيمنع المزيد من الانحدار العربي، هذا إن كان لازال للشأن العربي أهمية لدى المصفقين للصفقة؛ ولربما هناك من اقتنع بأن الصهيونية العالمية ستحمي الأطراف أو الأفراد الذين سيبادرون بالوقوف بجانب هذه الصفقة، بل سيتم تخليدهم كأبطال.إلا أن التاريخ لم يُثبت بأن للمحتلين والغزاة أي عهد أو وفاء... وهم يستخدمون من يخونون قضاياهم الوطنية كالمناديل الورقية، حتى تستنفد فائدتهم، ويتم الاستغناء عنهم.... ولن أزيد.ولكن علينا أن نتذكر دائمًا بأن هذه الصفقة تم طبخها على نار هادئة، ومدمرة، في آن معًا... وقد سبق هذا الإعلان المدوي عنها، الكثير من الترتيبات والإجراءات والحروب والصراعات والخيانات والابتزازات والتهديدات... على مدار نصف قرن (منذ الحرب الأهلية اللبنانية 1975 حتى يومنا هذا)... بدأ حينها إطلاق ظاهرة العنف والتطرف والإرهاب الديني والمذهبي من قمقمه، لتنمو في بيئة الحروب والصراعات العسكرية والمذهبية والإثنية، وفي لبنان حمل هذا العنف الإرهابي الخطير اسم المقاومة زورًا، ليبدأ مشوار سحق المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني امتدادًا إلى إخراجها من المشرق العربي برمته، وليبقى هذا التطرف الإرهابي الديني الدموي حاميًا للحدود الشمالية لكيان إسرائيل... هذه كلمات موجزة لما عشنا تفاصيله من أحداث دامية منذ ذلك الفاصل الزمني في التحولات الدولية، مما يستوجب نبش ذلك التاريخ، وفحصه فحصًا دقيقًا لكشف الأكاذيب التي تم زرعها في الجسد العربي خلال نصف قرن لإخفاء الحقيقة، حتى ساعة إعلان صفقة القرن المشؤومة... فالصفقات الكبرى لا يتم صناعتها بيوم وليلة، وخصوصًا إن كان يراد لها النجاح الأزلي.بعد نصف قرن من العمل المستمر لإعداد الأمة، أصبحت البيئة العربية في 2020 ميلادية متهيئة تمامًا لاستقبال مشروع الصفقة.بيئة عربية خالية من الإرادة السياسية والثقافية، فاقدة للهوية الوطنية والقومية، مستسلمة لجميع أنواع الابتزاز والخلافات البينية المصطنعة.بيئة عربية متهمة، من أقصاها إلى أقصاها، بالإرهاب والتخلف مع سبق الإصرار والتعمد، دون أن تتعنى الأمة حتى التفكير في رد التهمة والغبن عنها، أو إيجاد سبل لهذا الرد.بيئة عربية عادت للخضوع إلى المستشارين الأجانب، وكأن التاريخ يعيد نفسه، وعدنا إلى تلك الحقبة من عصر وزارة المستعمرات البريطانية مرة أخرى (القرن السابع عشر والثامن عشر الميلادي)، تلك الوزارة التي بثت أعضاءها المستشرقين ليخترقوا دولنا وبيوتنا وديننا وتاريخنا، وخططوا ونفذوا مخططات طويلة الأمد، لتاريخ استعماري أبدي، كي تبقى بلادهم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس.ونتساءل هنا، هل هناك أفضل من هذه البيئة العربية، الفاقدة لكل معالم القوة، لإعلان صفقة القرن هذه؟؟؟... هل يمكن أن يترك أصحاب الصفقة هذا الفاصل الزمني الهام في تاريخ العالم والمنطقة دون إعلان هذه الصفقة، وإعلان انتهاء الوجود الفلسطيني برمته. هذا هو حال العرب اليوم، مسلوبو الإرادة، لا يملكون من أمرهم ما يسمح بالاعتراض... وفي مرحلة ما قبل النهاية تم تخييرهم ما بين القبول أو السقوط... فيا ترى من يجرؤ على غير القبول في هذه الحالة.لن أزيد في وصف هذه الصفقة الكارثة بأكثر من هذه الكلمات... وأرى إنه عوضًا عن النوح على اللبن المسكوب، على هذه الأمة أن تواجه الحقيقة وتدرس الأسباب التي أدت بالواقع العربي إلى هذا اليم الخطير؛ وأن تعمل على المواجهة، والبحث عن طريق الخروج قبل فوات الأوان... وأن نتوقف عن ترديد الشعارات، وعن أحلامنا في فشل هذه الصفقة... فالقوة لا تواجه إلا بالقوة، سواء كانت قوة عسكرية أم علمية أم سياسية أم ثقافية... فالعلم أكد أن لكل فعل ردة فعل مواز له في الشدة ومساو له في القوة، فأين ردة فعل العرب أمام هذا الفعل القهري الذي سيأخذ الأمة للنهاية المحتومة جبرًا.وهنا أضع سؤالي هذا... يا ترى هل كان ممكن الإعلان عن هذه الصفقة لو كانت موازين القوى متكافئة في منطقتنا العربية؟؟؟.... هل كانت هذه الصفقة ستعلن وتمرر لو كان العرب يتكئون على قوة عربية في كفة ميزان الأمن الإقليمي، الذي تم تدميره دون وجه حق؟؟؟فهل عرف العرب اليوم أين وكيف ولماذا دمروا عربتهم العربية، ورموها في ذلك الوادي السحيق؟؟
مشاركة :