هل نريد حقا أن نعيش في الماضي؟

  • 6/6/2015
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

استهل مقالي هذا الأسبوع بقصة سمعتها عن الملك الراحل فيصل بين عبدالعزيز آل سعود، ورغم أني مع الأسف لا أستطيع التأكد من مدى مصداقية هذه القصة، إلا أنها تحمل عبرة أراها مدخلا جيدا لمقالي. من المعروف أن دخول جهاز التلفزيون إلى المملكة العربية السعودية في عهد الملك الفيصل عام 1965 جوبه باحتجاجات عنيفة من قبل جماعات متشددة، ووصل الأمر ببعضهم إلى مهاجمة برج التلفزيون في مدينة جدة محاولين هدمه. هذه الاحتجاجات شغلت هواجس الملك فيصل، فاستدعى قادتها من جدة إلى قصره الجديد آنذاك في مدينة الرياض، وعندما وصلوا أخيراً كان القصر مضاءً بالشموع لانقطاع الكهرباء عنه، لكن الملك كان في مزاج جيد، وأصغى باهتمام إلى حججهم وأقاوليهم حول أن هذا الجهاز رجس من عمل الشيطان، ودخيل أجنبي على ثقافتنا الأصيلة، والأسوأ من ذلك أن نساءنا تشاهدنه، ويغزو عقولهن بأفكار غريبة عليهن وعلى مجتمعنا المحافظ. بدا وكأن الملك يستمع ويفكر بعمق في المسألة، ويقلَّب هذه الحجج في عقله، وبعد فترة من الوقت خاطب حضوره بالقول: أنتم محقون تماما، وحججكم وأقواليكم مقنعة بشكل كامل. أصيب وفد جدة بالدهشة بعد حصوله على ما يريد بسهولة، وهمًّ أعضاؤه بمغادرة القصر منتشين بتحقيق مطالبهم بناء على دفوعاتهم وبلاغتهم بين يدي الملك، لكنهم اكشتفوا بعد فترة وجيزة أنهم كانوا مخطئين تماما في ذلك، فقد صُدِموا جمعياً عندما لاحت لهم جمالاً تنتظرهم خارج القصر في مكان كانوا تركوا فيه سيارتهم اللامعة!. عادوا على أثرهم إلى الملك فيصل يسألونه ماذا حدث لسيارتهم، وربما يكون الملك قد تصنَّع الدهشة عندما أجابهم لقد أخبرتكم أن حججكم تركت في نفسي أثراً عظيماً، ويجب علينا التخلص من هذه الشياطين الدخيلة والعودة إلى الماضي، وبإلغاء هذه السيارات من حياتكم تكونوا قد قضيتم على مظهر من مظاهر الشر والهرطقة، وأرحتم ضمائركم، ولكم الآن أن تتمتعوا بالعيش في أتون الماضي وتتقمصون وسائله. أرجو لكم جمعيا السلامة في طريق عودتكم إلى جدة. بدا من الواضح على وجوه الضيوف أنهم لا يريدون العودة إلى ديارهم في رحلة تستغرق عدة أيام على ظهر جمل، لكنهم كانوا محاصرين من قبل منطق الحجج ذاتها التي ساقوها بأنفسهم إلى الملك ضد التلفاز. الملك فيصل عاد عن موقفه في نهاية المطاف، وقدم لهم مرَّة أخرى سياراتهم اللامعة، وربما كان يأمل حينها أنهم أدركوا وجود استخدامات إيجابية كثيرة للاختراعات العالمية الحديثة، وأنه يمكن أن تكون هناك فائدة تربوية كبيرة جراء جلوس العائلة أمام التلفاز ومشاهدة برامجه، فقد أدرك الملك فيصل مبكرا أن التلفزيون وغيره من الابتكارات يمكن أن تكون أدوات للتقدم أو أدوات لتكريس التخلف، وأن لها وجهي استخدام تماما كسكين المطبخ التي يمكن استخدامها لتقطيع الخضروات، كما يمكن استخدامها ذاتها في جريمة قتل. لكن ما يدعو للدهشة الآن، هو عدم معرفتنا لكيفية انتقال هؤلاء المتشددين إلى الضفة الأخرى تماما، حيث أن عددا منهم يتصدرون شاشات التلفزة لساعات وساعات ويتقنون استخدام فنون صناعة التلفزيون وحتى الانترنت أيما اتقان!، فيما هم يدعون ويروَّجون لأفكار أصولية متشددة تفضي جميعها إلى زيادة عزلتنا عن العالم وتقوقعنا في الماضي السحيق. هذه الدعوات متناقضة إلى حد كبير، تماما كتناقضات وفد جدة الزائر للملك فيصل، فنحن ربما نتفق على أن أفلام هوليوود هي دعاية غربية تهدف لتغيير قناعاتنا وسلوكياتنا، وربما تفعل ذلك موسيقى البوب والفن الحديث أيضا، ولكن لا يمكن أن تكون الهواتف الذكية بدعة بحال من الأحوال، واعتقد أنه لا يمكن لأصحاب تلك الدعوات تخيل بلادنا بدون تويوتا لاند كروزر! في هذه الأوقات الصعبة التي يواجه فيها إخواننا وأخواتنا في اليمن وسوريا وليبيا والعراق الحرب والتشرد والضياع، أتذكر أبياتا قاتمة من قصيدة لميخائيل نعيمة يقول فيها: أخي ! مَنْ نحنُ ؟ لا وَطَنٌ ولا أَهْلٌ ولا جَارُ إذا نِمْنَا ، إذا قُمْنَا رِدَانَا الخِزْيُ والعَارُ لقد خَمَّتْ بنا الدنيا كما خَمَّتْ بِمَوْتَانَا فهات الرّفْشَ وأتبعني لنحفر خندقاً آخَر نُوَارِي فيه أَحَيَانَا *رئيس مجلس إدارة بروموسيفن

مشاركة :