الفن الغامر يكسر الحاجز بين واقع الثورة وخيالها

  • 2/28/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

منذ أن دخلت الألعاب النارية ساحة الشهداء في بيروت احتفالا بالسنة الجديدة، لم تخرج منها، ولكن تحوّلت وتغيرت سبل وتوقيت استخدامها على وقع يوميات الثورة اللبنانية. فاللبنانيون الذين تجمعوا في تلك الليلة الاحتفالية، ورفعوا مجسمات لقبضة الثورة والأعلام اللبنانية، ورقصوا وغنوا حتى جاء منتصف الليل هاتفين بالعدّ التنازلي لاستقبال العام الجديد وأطلقوا الألعاب النارية في السماء، لم يدركوا أن تلك الألعاب النارية سترافقهم في تحركات ليلية تالية تأرجحت بين السلمية والعنفية حتى الإعياء. كنت حاضرة في إحدى تلك الليالي حيث ساد توتر حاد ما بين المحتجين والقوى الأمنية. استخدمت فيها القوى الأمنية، الموكول إليها حماية مجلس نواب الشعب من الشعب، القنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه لتشتيت المتظاهرين. بدورهم، عمد الكثير من المتظاهرين إلى إلقاء الألعاب النارية عموديا وأفقيا ضد عناصر المكافحة، لتختلط هذه الأخيرة في مزيج لوني/ضوئي باهر على خلفية سماء ليلية مع دخان المسيل للدموع وتكسرات تدفق الماء الذي كانت القوى الأمنية تصوّبه نحو المتظاهرين. وتسببت هذه الليلة في وقوع عدد من الجرحى نقلوا إلى المستشفيات على وقع صراخ المتظاهرين. ليلتها أصابني نوع من الذهول والحيرة الشديدة لأنني كنت أمام وفي قلب مشهد صدامي على السواء، وخجلت من نفسي لأنني لم أستطع أن أمنع نفسي من الافتتان بجانبه الفني والجمالي. لم أعد أعلم ماذا أفعل في وسط الساحة تحديدا. هل أكتفي بتقديم قطع البصل النيّ والمقطّع إلى الثوار كي يتنشّقوها بعد أن أصابهم دخان القنابل المسيلة للدموع؟ هل أنا مُشاركة فاعلة في الاحتجاج؟ هل أنا فعلا مع استخدام العنف تجاه القوى الأمنية؟ هل أرضى بأن أظل هذه الليلة مجرد داعمة سلمية للثورة، أُجسّدها بحضوري وليس بيدي، حتى راية لبنانية ولا هتاف أردّده في العلن؟ هل أحاول العودة إلى المنزل؟ ما أن مرت دقائق حتى شعرت أنني مُراقبة للمشهد الهائل العنيف أشارك في تشكيله بألوانه وصخبه، مُتنشّقة لروائحه الحادة وذائقة لطعمه الصدئ المُتشكل في فمي. مُراقبة، نعم. ولكن من قلب صناعة المشهد. عندما عدت إلى المنزل مُنهكة ذهبت أفكاري إلى هويتي كفرد بين مجموعة وداخل مشهد/تجربة احتشد واحتشدت بالتفاصيل الحارقة والمُحرقة. أصبحتُ في نظري أشبه بخيط يغزل في نسيج الثورة، وصورة عنها في آن واحد. أخذتني تلك الأفكار إلى ما جرى على تسميته بالفن الغامر، أي “الإيمرسيف آرت” الذي يزداد رواجه في العالم على حساب المعارض الفنية التقليدية. وباختصار شديد، الفن الغامر هو الذي يدخل فيه الفرد “جسديا” إلى عالم صمّمه فنان ديجيتاليا وواقعيا على السواء. وهو فن يقدّم دهشات كبرى لأنه يكسر الحاجز ما بين الواقع والخيال. ويحوّل هذا الفن في الكثير من الأحيان، الفرد إلى مُشارك فاعل في اختراع وتوسيع معالم المشهد أو الرحلة التي صمّمها الفنان. مرّت بضعة أيام على هذه الليلة الواقعية/الغرائبية لأعثر على صور فوتوغرافية رائعة تجسدها بكل ما كان فيها من حيوية وعنف وجمال. بعضها التقطها المصوّر ربيع ياسن، وبعضها الآخر، والأروع أخذها، لا بل اقتنصها المصوّر الفوتوغرافي نبيل إسماعيل من قلب الساحات. صور جسدت خفة يده وحدة نظرة خبيرة تمرّست على اصطياد اللحظات الخاطفة والقصوى. كيف يمكن للمرء أن يكون مغمورا بالأضواء الملونة والمفاجئة وألا يكون ثائرا متفائلا ولو في وسط التشنّج؟ وكيف يمكن له ألا يكون إلاّ تجسيدا لكل ثائر صادق في صور واقعية/فنية كتلك التي اقتنصها المصوّر الفوتوغرافي نبيل إسماعيل من قلب الشارع. ثائر مغسول بالضوء في ثورة لونية/اشتعالية تواطأت مع نقيضها الظلام الليلي، على ضفاف خط الخطر الداهم. صور شديدة وعنيفة، بصرية وتعبيرية و”غير سلمية” منبثقة مع واقع عاشه كل من كان عنصرا مؤلفا لهذه الليلة التي تبدل فيها الفرح، الذي تجسده الألعاب النارية، إلى مظاهر احتجاج على سلطة لا ترى ولا تسمع. أتاح الفنان في صوره أن يعيد الثائر إلى الأجواء المتوترة التي اختبرها في تلك الليلة، وأن يجعله مرئيا في عين الثائرين الآخرين. في تلك الصور أصبح الثوار أقرباء/غرباء التقوا في ساحة واحدة دون أن يتعارفوا على خط المواجهات المُعمّدة باشتعالات العناصر الأربعة وتداخلها من نار وماء ودخان وحصى متطاير رموه تجاه القوى الأمنية. أتأمل في صور نبيل إسماعيل كمن يتأمل في الشرر وأثره الذي حفر بعيدا في مسامات الوجدان الثوري، الشخصي والجماعي على السواء. وتعود إلى ذاكرتي أغنية لكاتي بيري عنوانها “الألعاب النارية”، تقول فيها هذه الكلمات البسيطة والعابرة للخيبات: “هل شعرت يوما ما أنك رقيق كمنزل من أوراق اللعب؟/هل شعرت أنك كالمؤدين تحت طبقات من صرخات متواصلة لا يسمعها أحد؟/لكن، هل تعلم أنه ثمة أمل وامض؟/عليك أن تدع الضوء يضيء/امتلك الليل!/لأنك ألعاب نارية تخترق السماء المعتمة/أخرج ألوانك إلى العلن كي يراها العالم”.

مشاركة :