تمر الهند بتحول آخر. كانت الهند التي زرتها لأول مرة في السبعينيات من القرن الماضي، دولة ديمقراطية بصورة مثيرة للإعجاب - باستثناء الفترة التي أعلنت فيها رئيسة الوزراء آنذاك إنديرا غاندي "حالة الطوارئ" بين عامي 1975 و1977. يومها كان اقتصادها ينمو ببطء شديد. بعد أزمة ميزان المدفوعات في عام 1991، استحدثت الهند إصلاحات جذرية. وخلال العقدين التاليين، أصبح اقتصادها أسرع نمو، في حين ظل النظام السياسي ديمقراطي، وبقوة. بعد الأزمة المالية العالمية، تباطأ النمو. تتجه سياسة الهند الآن نحو شكل غير ليبرالي بطريقة عدوانية على أساس نظام الأغلبية. على أن هذه التغيرات المزدوجة ليست نحو الأفضل. شارك آرفيند سوبر أمانيان، كبير المستشارين الاقتصاديين السابق، في إعداد دراسة عن تباطؤ الاقتصاد في فترة ما بعد الأزمة المالية. تلاحظ الدراسة أن كل مؤشر مهم في الاقتصاد، مثل الاستثمار والائتمان والأرباح والإيرادات الضريبية والإنتاج الصناعي، والصادرات والواردات – قد تراجع بشكل حاد منذ الأزمة المالية. مع ذلك، كان من المفترض أن يرتفع النمو الاقتصادي الإجمالي. هذا التناقض أقنعه بالطعن في مصداقية التقديرات الرسمية للنمو الاقتصادي. كان استنتاجه أن المبالغة في تقدير النمو بين عامي 2011 و2016 بلغ في المتوسط 2.5 نقطة مئوية سنويا، وهذا من شأنه أن يخفض متوسط النمو إلى نحو 4.5 في المائة. إذا كان الأمر كذلك، فقد كان هذا سيئا بالفعل. مع الأسف، هناك ما هو أسوأ. كان الاقتصاد يتباطأ بشكل أكبر في الماضي القريب، حتى في الإحصاءات الرسمية، فهي تبين أن نمو الناتج المحلي الإجمالي تباطأ إلى 4.5 في المائة فقط، على أساس سنوي، في الربع الثالث من العام الماضي. من المحتمل أن يتحول النمو إلى الأحسن في الوقت الحالي، لكن التباطؤ كان حادا ويمكن مقارنته بما حدث في أزمة أوائل التسعينيات. إذن ما الذي يفسر النمو الضعيف بعد عام 2008 والتباطؤ الحاد في الماضي القريب؟ أولا- أدى التوسع غير المستدام للصادرات والاستثمارات المحلية التي تغذيها القروض، إلى تضخم معدل النمو في الهند قبل الأزمة. ثانيا- على الرغم من ظهور مشكلات كبيرة في الميزانية العمومية بعد الأزمة في قطاعات الشركات المالية وغير المالية، إلا أن الإنفاق الحكومي وانخفاض أسعار النفط والإقراض المزدهر من الشركات المالية غير المصرفية، استمر في النمو. أخيرا انهار الائتمان من هذه المؤسسات الأخيرة في عام 2019. ثم انضم الاستهلاك إلى مصادر الطلب الأخرى - لا سيما الاستثمار والصادرات - في الضعف بشكل حاد. يجادل سوبر أمانيان بأنه يجري العمل في حلقة مفرغة اليوم، أسعار الفائدة المرتفعة، والنمو الاقتصادي الضعيف، والربحية الضعيفة، تزيد من أعباء الديون وتزيد من تفاقم مشكلات الشركات المالية وغير المالية. يبدو أن استجابة الحكومة تنكر الأدلة على التباطؤ. أشارت مناقشة في وزارة المالية الأسبوع الماضي إلى أن رد الفعل هو نوع من الإجراءات الإدارية التي أتذكرها من عملي في الهند لدى البنك الدولي في السبعينيات من القرن الماضي: الحمائية، والاستثمار الحكومي العالي، وأهداف الإقراض بالنسبة إلى المصارف، والمساعدة المباشرة للصادرات. من المستحيل تصديق أن مثل هذه الإجراءات ستحل جوانب الضعف العميقة وراء فشل النمو الأخير. السياسة الاقتصادية الجيدة صعبة. ولأن الاقتصاد الهندي يصبح أكثر تعقيدا وتقدما، وأصبحت السياسة الاقتصادية أصعب، فهي تتطلب بيانات موثوقة، وكفاءات على مستوى عالمي، ومشورة مستقلة، ونقاشات مفتوحة. بدلا من ذلك، اختفى أفضل المستشارين وتركزت عملية وضع السياسات في جميع الأحوال، داخل مكتب رئيس الوزراء. من المتوقع أن يظهر الجميع ولاءهم قبل كل شيء. راهول باجاج، رجل أعمال هندي معروف، اتهم الحكومة "بتهيئة بيئة من الخوف". في الفترة القصيرة التي قضيتها هناك الأسبوع الماضي، وجدت أن كثيرين يتفقون معه، ولو كان سرا. من الضروري لمستقبل الهند أن يرتفع معدل النمو إلى ما يزيد على 7 في المائة، وأن يكون هذا النمو مولدا للعمالة وصديقا للبيئة. هذا تحدٍ كبير. سيتطلب ذلك شطب الديون المعدومة، وزيادة المدخرات والاستثمار، وتحسين القدرة التنافسية الدولية، في بيئة خارجية أكثر صعوبة، وإجراء إصلاحات في الزراعة، والتعليم، والطاقة، ومجموعة من المجالات المهمة الأخرى. الحكومة الحالية لديها على الأقل الولاية اللازمة لإنعاش الاقتصاد، وبالتالي توفير فرص لحياة أفضل للجميع. ترجع تلك الولاية أيضا إلى المواهب السياسية التي يتمتع بها رئيس الوزراء، ناريندرا مودي، بلا شك، لكن معرفة كيفية استخدام مثل هذه الولاية لا تقل أهمية عن القدرة على الفوز بها. أحد البدائل عن الطريق الصعب لوضع سياسة اقتصادية جيدة يتمثل في اتخاذ تدابير مثيرة، مثل سحب العملة من التداول، أو الإصلاحات الفاشلة على غرار فرض ضريبة سلع وخدمات معقدة للغاية. البديل الأسهل هو الاعتماد على سياسة الهوية. يبدو أن هذا هو الخيار الحالي. أعمال القمع في كشمير، والتمييز الواضح ضد المسلمين في قانون تعديل المواطنة الجديد، والسجل الوطني المقترح للمواطنين، في بلد يشتهر بسوء التوثيق، والنية الواضحة لترحيل المسلمين الذين لا يستطيعون إثبات حقهم في البقاء، وتشير جميعا إلى تدهور النظام السياسي الهندي. هناك كذلك أيضا حرية إطلاق ألقاب مثل "الخائن" على من يعارض و"التحريض على الفتنة" على من يحتج. من الواضح، بكل تأكيد، أن تحول الهند إلى دولة أخرى في صورة "ديمقراطية غير ليبرالية" هو هدف طويل الأمد. ليس من المستغرب أن يكون الرئيس الأمريكي دونالد ترمب معجبا بسياسة مودي. إنهما يلعبان اللعبة نفسها، لكن الأغلبية التي يحظى بها مودي تمنحه مزيدا من الأوراق. وصلت الهند الآن إلى مفترق طرق. ويمكن لحكومتها القوية إما أن تركز جهودها على إنعاش الاقتصاد أو يمكنها الاستمرار في تحويل الديمقراطية الليبرالية غير الكاملة، إلى شيء مختلف تماما هو الشعبوية. من السهل فهم الانجذاب إلى هذا المشروع الخطير، لكن يجب أن نأمل أن يستمع مودي، حتى هذه اللحظة، إلى الملائكة الطيبة في داخله.
مشاركة :