ولم تَسْلَم العملة الصينية من لعنة هذا الفيروس، إذ تراجعت أكثر من 1.5%، إلى أقلّ من السعر الرمزي المحدَّد بسبعة يوان لكل دولار، بينما تمّ تعليق المبادلات لصفقات الحديد والنحاس والنفط بعد انخفاض تجاوز الحدّ الأقصى المسموح به. كل ما جاء المقال على ذكره في الحلقة الأولى كان محصورًا في الصين، بوصف كونها البلد الذي انطلق منه الوباء. أما على مستوى الأسواق المالية العالمية، وكما تشير الأخبار الصادرة عنها، فقد «أغلقت بورصة وول ستريت جلسة التداولات الاثنين (24 فبراير 2020) على خسائر حادّة لم يعرف مؤشر داو جونز مثيلًا لها منذ عامين، وذلك بسبب مخاوف المستثمرين من التداعيات المحتملة لفيروس كورونا المستجدّ على الاقتصاد العالم، إذ بلغت خسائر مؤشّر داو جونز الصناعي 3.6 بالمئة، إذ تراجع إلى 27.960,80 نقطة، في أسوأ جلسة له على الإطلاق منذ أكثر من عامين». وعلى نحو موازٍ، سجل مؤشر ناسداك -الذي تغلب عليه أسهم شركات التكنولوجيا- بدوره تراجعًا بنسبة 3.71%، مستقرًا عند 9.221,28 نقطة، في حين بلغت خسائر مؤشّر «ستاندرد أند بورز 500» الأوسع نطاقًا، بلغ 3.35% ليهبط إلى 3.225,89. في الوقت ذاته، وامتدادًا لتأثيرات فيروس الكورونا على الأسواق المالية، وكما جاء على موقع (24) الإلكتروني، «محت القفزة في عدد الإصابة بفيروس كورونا خارج الصين نحو 474 مليار دولار من قيمة أسواق الأسهم الأوروبية، يوم الاثنين (24 فبراير 2010). وتراجعت الأسهم في ميلانو 5.4% لتشهد أسوأ يوم لها منذ منتصف 2016، مع إعلان إيطاليا أكبر تفشٍّ للفيروس في أوروبا بعد 6 وفيات على الأقل وأكثر من 200 إصابة، وهو ما سينال على الأرجح من اقتصاد البلاد المنهك أصلًا. وفي الوقت ذاته، نزل المؤشر ستوكس 600 الأوروبي 3.8% مسجلاً أكبر انخفاض في يوم واحد بالنسبة المئوية منذ تصويت بريطانيا لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016». وكما نكرر دوما بأن «الشيء بالشيء يذكر»، فقد أعاد انتشار هذا الوباء، على النحو الذي تفشى به، والسرعة التي انتقل بها من موقع إلى آخر، للأذهان ما عرفه العالم في العام 2003 عندما انطلق فايروس «سارس» من الصين أيضًا، وحصد ضحايا قدر عددهم حينها بحوالي 800 وفاة، بعد إصابة أكثر من 8 آلاف شخص به، وقدرت تكلفته للاقتصاد العالمي حينها «بما يزيد على 50 مليار دولار». ووفقا لأرقام البنك الدولي، «فإن الأوبئة تكلف الاقتصاد العالمي سنويًا أكثر من 570 مليار دولار، وهو ما يوازي 0.7 في المائة من الدخل العالمي. وتتنوع هذه التكاليف بين تكاليف مباشرة من القطاع الصحي، وأخرى يسببها تغير سلوك المستهلكين وابتعادهم عن التسوق وممارسة نشاطاتهم الطبيعية التي تحرك الاقتصاد، إضافة إلى اختلال سلاسل التوريد العالمية مع انخفاض الطلب. وتتأثر قطاعات كثيرة سلبًا بسبب هذه الأوبئة، وأكثرها تأثرًا قطاعات الطيران والسياحة والتأمين، وخسائر شركات الطيران في عام 2003 خير شاهد على ذلك». أرقام منظمة الصحة العالمية السنوية، تثير الرعب في أذهان من يقرأها فهناك ما يربو على «5 آلاف بلاغ مبكر عن أوبئة متفشية، ينخفض هذا الرقم إلى 300 حالة تحتاج إلى تقصٍّ، لتصل إلى 30 منها تستلزم دراسات ميدانية ودعم أبحاث تطبيقية لتطوير لقاحات تحد من انتشار الأوبئة. فعلى سبيل المثال، كلّف داء الحصبة ولاية إنديانا في أمريكا أكثر من 160 ألف دولار في العام 2005... (ووصلت) تكلفة علاج الحالة الواحدة إلى أكثر من 5 آلاف دولار واستنزاف الكادر الطبي بأكثر من 3500 ساعة عمل». مجموعة من الدراسات الحديثة التي قام بإعدادها صندوق النقد الدولي، تكشف الكثير مما يتركه تفشي الأوبئة على الاقتصاد العالمي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وجاء في دراسة نشرها موفع «العربية نت» الإلكتروني، «تقدر التكلفة السنوية لانتشار الإنفلونزا بنحو 500 مليار دولار بشكل مباشر أو غير مباشر، أو ما يوازي نحو 0.6% من حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي مع العواقب المتعلقة بتراجع حجم إنتاجية العمل وحالات الوفيات المرتفعة». كل ذلك يعني أن الآثار الاقتصادية السلبية للأوبئة لم تعد محصورة في تلك النفقات التي تمس المصابين، على نحو مباشر، بل تتعداها كي تصل إلى الاقتصادات الوطنية، والنشاطات التي تعد ركنًا أساسًا في اقتصاد هذا البلد أو ذاك. وما زاد الطين بلة، وساعد على زيادة سرعة انتشاره، واتساع الرقعة الجغرافية التي مسها، هو التالي: • نمو حركة التنقل، بفضل تطور وسائل المواصلات، سواء داخل ربوع البلد ذاته، أو بين البلدان المختلفة، بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية، الأمر الذي من شأنه تضاعف من سرعة عجلة انتشار الوباء لحظة حدوثه في منطقة معينة، ليست معزولة عن دائرة المواصلات التي نتحدث عنها. فسابقًا، يبقى الوباء، محصورًا، نسبيًا، في نطاق البقعة الجغرافية التي انتشر فيها، أما اليوم، وبفضل القفزات التي حققتها وسائل المواصلات، فربما نجده منتشرًا عالميًا قبل أن يصل إلى الرقعة الجغرافية المتاخمة للمنطقة التي تفشى فيها. سواء بفضل حركة المسافرين، أو جراء التبادل التجاري في الأسواق العالمية. • التطور الملحوظ، وغير المسبوق في وسائل الاتصالات، التي عزز من سرعة تناقلها للأخبار، بما فيها تلك التي لها علاقة بالأوبئة، وفي مقدمتها وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت محكومة في نسبة عالية من محتواها، المختلف الهيئات: النصوص، الصور، الفيديوهات، بدوائر صنع القرار في بلدان معينة أصبحت تتحكم، بشكل واعٍ، في: تحديد طبيعة ذاك المحتوى، وطرق بثه وعرضه، بالإضافة إلى توقيت نشره، وسبل تداوله. قاد ذلك إلى توسيع نطاق دائرة الهلع من جانب، وتعميق تأثيراتها السلبية، وعلى وجه الخصوص في مجالي الاقتصاد والمال، من جانب آخر. • اتساع نطاق تأثير ما أصبح يعرف باسم «القوة الناعمة»، والتي تتحكم فيها الدول العظمى مثل الصين والولايات المتحدة، ومن ثم فمن غير المنطقي، دون الوقوع في نظرية «المؤامرة»، أن يكون ما شاهدناه أو سمعناه في وسائل التواصل الاجتماعي، وعبر قنوات محطات التلفاز، هو تدريب عملي على استخدام أدوات تلك القوة الناعمة في الحرب الدائرة رحاها اليوم بين واشنطن وبكين. ووجدت هذه الأخيرة في فزاعة الفيروس فرصة لا تتكرر في إثبات موقعها المتميز في دوائر العلاقات الدولية الجديدة، وفي القلب منها الاقتصادية. دون أن يعني ذلك، مرة أخرى، الوقوع في أسر «نظرية المؤامرة».
مشاركة :