البطريق رفيق الإنسان في التنبؤ بآثار تغير المناخ

  • 3/1/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يحاول ستيف فوريست حساب عدد طيور البطريق، وإن كان ذلك يتم ببطء. يتساقط الثلج في رقائق سميكة لزجة وتختفي المستعمرة المستهدفة. كما تتسرب موجات البرد عبر قاربنا مع اشتداد الرياح، حيث تدفعالأمواج ذات الرغوة البيضاء عبر مضيق جيرلاش، عند طرف شبه الجزيرةالقطبية الجنوبية. تقع مستعمرة البطريق المعروفة باسم تشاينا ستراب أعلى المنحدر، ولا يوجد مكان لهبوط قاربنا الذي يحتوي على عدد من طلاب الدراسات العليا وطائرتين مسيرتين كبيرتين، على الشاطئ الصخري. أحد الطلاب يحمل مقياس شدة الريح لقياس سرعة الرياح. الطالب الآخر لديه وجه جامد لشخص على وشك أن يتقيأ. يقول فوريست، عالم الأحياء في الحفاظ على البيئة، وهو من المخضرمين في دراسة القطب الجنوبي منذ 25 عاما: "هذا يرمز إلى ما تفعله بطارق المستعمرة، فهي متطرفة للغاية". نراقب طيور البطريق وهي تقفز من المحيط وتقبض على الصخور بمخالبها، وتنطلق على ضفة ثلجية شديدة الانحدار للوصول إلى المنزل. "لا يعرف كثير عن هذه البطارق، مقارنة ببعض أنواع البطريق الأخرى - ويعود السبب في ذلك جزئيا إلى أنها تعيش في هذه الأماكن البعيدة غير الجذابة". شتاء قارس .. مجرد يوم معتدل ما يبدو كطقس سيئا لفريق عد طيور البطريق، هو مجرد يوم معتدل في أبرد قارة وأكثرها رياحا وأعلاها في العالم. تحتوي القارة القطبية الجنوبية على 70 في المائة من المياه العذبة في العالم، و90 في المائة من الجليد. إذا ذابت القارة بأكملها بالكامل، سيرتفع مستوى سطح مياه البحر في العالم نحو 60 مترا. نظرة على شواطئها المغطاة بالجليد، توضح السبب في كونها القارة الوحيدة التي لم يسبق لها قط أن عاش فيها سكان أصليون. في الجزر النائية حول شبه الجزيرة يفحص فوريست وفريقه من جامعة ستوني بروك في نيويورك مستعمرات البطريق، التي لم يتم حساب بعضها منذ ثلاثة عقود. لقد توصلوا إلى تراجع في أعداد الطيور في عدة مواقع: تقلصت مستعمرة كبيرة بأكثر من النصف. تقول هيذر لينش، أستاذة العلوم البيئية والتطور في ستوني بروك: "هذا جزء من تراجع إقليمي أكبر بكثير نشعر بالقلق إزاءه. الجزء المقلق بالنسبة لي ليس في أن الأعداد تتراجع بل هو أننا لا نفهم ما يجري - ومن يدري ماذا يجري من أمور أخرى، وما الذي يتراجع غير ذلك تحت أنوفنا، وهي أمور لا علم لنا بها". فتش عن تغير المناخ تغير المناخ هو العامل الأكثر احتمالا وراء تراجع الأعداد. شبه الجزيرة القطبية الجنوبية، حيث نحن، هي أسرع جزء آخذ في الاحترار في القارة. ارتفعت حرارته بنحو 3 درجات مئوية منذ عام 1950 وفي شباط (فبراير) الماضي، تم تسجيل ارتفاع قياسي بلغ 18.3 درجة مئوية في قاعدة اسبيرانزا. وتيرة التغيير في شبه الجزيرة - التي ترتفع درجة حرارتها بثلاثة أضعاف أسرع من بقية الكوكب - تعني أن أعداد الحيوانات الموجودة هناك تقع وسط تحول سريع. بعض الأنواع تزدهر، في حين أن أنواعا أخرى باتت معرضة لخطر الانقراض. تقول لينش متحدثة عبر الهاتف بعد الرحلة الاستكشافية: "هذه البطارق هي نذير الخطر لمجموعة كاملة من التغيرات التي تحدث في شبه الجزيرة القطبية. ربما ينفد الوقت لمعرفة ذلك، قبل أن تكون هذه التغييرات لا رجعة فيها". على الرغم من أن القارة القطبية الجنوبية يمكن أن تبدو منطقة قاحلة عقيمة، إلا أن المحيطات المحيطة بها تعج بالحياة. تؤدي الأنهار الجليدية العملاقة والتكوين السنوي لجليد البحر إلى حدوث انقلاب في مياه المحيط، ما يصب الأكسجين والمواد المغذية في البحر. كل شتاء تتضاعف المساحة السطحية للقارة مع تجمد المحيط من حولها. جليد البحر يغذي أسماك الكريل، أكثر الأنواع وفرة على الكوكب وأساس السلسلة الغذائية للمحيطات. هناك أسراب من الطيور مثل القطرس ذات الجبهة السوداء وطيور النوء البحرية العملاقة في الجنوب، بأجنحة يصل طولها إلى مترين، تتبع قاربنا أينما ذهبنا. من المعروف أن دراسة القطب الجنوبي صعبة ولكنها، من نواح كثيرة، تحمل مفاتيح فهم مستقبل كوكبنا. المعدل الذي يذوب فيه الجليد سيحدد ما إذا كنا سنرى ارتفاعا في مستوى سطح البحر يبلغ 50 سم أو 100 سم بحلول نهاية القرن - الفرق بين ما إذا كانت المدن المنخفضة مثل ميامي وبانكوك، ستظل على حالتها الحالية أم لا. جليد القطب الجنوبي مدفن أسرار الكون القرائن حول تاريخ العالم، وما كان عليه شكل الغلاف الجوي للأرض منذ ملايين السنين، هي أيضا مدفونة في أعماق الغطاء الجليدي في القارة القطبية. في وقت يحاول فيه البشر الحد من الانبعاثات، وحتى الآن فشلوا، تذكرنا القارة القطبية الجنوبية بما هو على المحك. بينما يتحرك زورقنا عبر الجليد العائم في قناة إريرا، ترصد كريستين تومبسون سلسلة من النقاط الحمراء العائمة في الماء. وهي مرتبطة بمادة جيلاتينية، شريط يربط بين الكرات الحمراء. هذه هي عوالق نباتية من الحبليات، وهي نوع يزدهر وسط ظاهرة الاحتباس الحراري - وهي ليست سعيدة برؤيتها. توضح تومسون، محاضرة في علم البيئة في جامعة إكستر وباحثة على متن سفينة أركتيك صن رايز، كاسحة الجليد التابعة لمنظمة السلام الأخضرالتي يبلغ طولها 50 مترا، التي التحقت بها لبضعة أيام: "هناك توازن دقيق حقا بين الحبليات وأسماك الكريل". ارتفاع الحبليات يعني ضمنا طعاما أقل للحيتان والحيوانات الأخرى التي تأكل الكريل. وتقول: "نحن نرى أن النظام الإيكولوجي غير متوازن. المحيط الجنوبي مهم للغاية بالنسبة إلى المحيطات في أي مكان آخر. لا تجد دوران التيارات المحيطية فحسب، بل هناك أيضا جزء من الصورة مع اندفاع المياه العميقة التي توفر المواد الغذائية التي تغذي العوالق والكريل". على الرغم من أن القارة القطبية الجنوبية تبدو في نهاية الأرض على الخرائط التقليدية، إلا أنها تقع في قلب محيطات العالم. تيار القطب الجنوبي المحيط، أقوى تيار في العالم، يعمل في اتجاه عقارب الساعة حول القارة. الحزام الناقل لتدوير وتوزيع المياه تيار القطب الجنوبي يقود "الحزام الناقل" العالمي الذي يدور الماء عبر المحيطات، وهو قلب نابض يضخ الحياة في البحار. يوضح روب لارتر، المختص في الجيوفيزياء البحرية في دائرة المسح البريطاني للقطب الجنوبي: "المحيط الجنوبي هو جوهر الدوران العالمي بأكمله". هذا الحزام الناقل - المعروف باسم الدورة الحرارية العالمية - يحكم المحيطات. غير أن الاحترارالعالمي يغير سلوكه. يقول لارتر: "إنه يتغير تماما. هناك احترار طويل الأمد وتجدد للمياه العذبة في القطب الجنوبي". أحد أكثر التغييرات وضوحا هو "مياه القاع في القطب الجنوبي" - وهي أبرد المياه وأكثرها كثافة التي تملأ أعمق أحواض الكوكب، وتتشكل بتجميد المحيط في فصل الشتاء. يعتقد جريجوري جونسون، عالم المحيطات في الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي، أن القطب الجنوبي ربما ينتج كميات من المياه أقل من السابق. في دراسة حديثة جاء أن: "النمط البارز بشكل فعلي هو المياه الأكثر برودة وكثافة حول القارة القطبية الجنوبية، كان أكثر دفئا بكثير مما كان عليه" كما يقول عبر الهاتف من سياتل. "نحو 10 في المائة من الاحترار العالمي للنظام المناخي يحدث في أعماق المحيطات. جزء كبير من ذلك هو الجزء السفلي من مياه القطب الجنوبي" حسبما أضاف. دوران المحيطات يعني أن القارة القطبية الجنوبية مرتبطة أكثر بكثير بباقي العالم مما يبدو للوهلة الأولى. آفة البلاستيك بلغت القطب يقول مارسيلو ليبي، مدير المعهد التشيلي في القارة القطبية الجنوبية: "هناك هذه الفكرة القديمة والخاطئة عن القارة القطبية الجنوبية، كقارة على شكل جزيرة. إنها ليست معزولة إلى هذه الدرجة. إنها مرتبطة باليابسة، في الواقع". ليس للقارة القطبية الجنوبية تأثير كبير في الكوكب فحسب، بل إنها تتأثر أيضا بشدة بالتلوث في أماكن أخرى. يقول ليبي: "قطع البلاستيك الدقيقة التي بدأت تنتشر بشكل واسع للغاية خلال القرن الـ20 ، لديها أيضا سجلاتها في الجليد في القارة - في بيض البطريق، وريش الطيور البحرية الكبيرة وفي كل مكان. جميع المشكلات التي لدينا في جميع أنحاء العالم، بلغت القارة القطبية الجنوبية أيضا". أتحدث مع ليبي في بونتا أريناس، مدينة تقع عند الطرف الجنوبي لتشيلي، وهي مركز برنامج القارة القطبية في البلاد. المدينة هي أيضا موطن مركز أبحاث ديناميكيات النظم الإيكولوجية البحرية ذات خطوط العرض العليا، الذي يتتبع كيفية استجابة الأنواع البحرية في القارة لتغير المناخ. أحد علماء الأحياء البحرية في المركز، لويس فارجاستشاكوف، يفتح باب المختبر المبرد، ويريني أنواعا أخرى من المحتمل أن تكون خاسرة في تغيير المناخ. السمكة القصيرة السمينة، طولها بقدر الإبهام، تكون مموهة على خلفية الصخور - وتمتزج جيدا بحيث إنه يجب أن أنظر مرتين لرؤيتها داخل خزاناتها البلاستيكية. هذه هي سمكة البحر الشائكة في القطب الجنوبي، Harpagiferantarcticus. فارجاستشاكوف يختبر كيفية استجابتها للمياه في درجات حرارة مختلفة - يتم ضبط خزان واحد عند ثماني درجات مئوية، وآخر عند خمس درجات مئوية و-1 عند سالب 2 مئوية. لقد عاد لتوه من القارة القطبية الجنوبية، حيث يقول إن الطقس دافئ بشكل غير عادي. ويشرح قائلا: "تتوقع الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ ارتفاع درجات الحرارة بين أربع و ست درجات مئوية في شبه جزيرة القارة القطبية الجنوبية. لدينا فكرة أن الأنواع الحية ستتحرك مع حدوث هذا الاحترار، لأنها خاصة بالموقع". لدى سمكة البحر الشائكة نوع شقيق في المياه الدافئة في تشيلي، التي تبدو مستعدة للانتقال إلى القارة القطبية الجنوبية في أي يوم. إحصاء حيوانات القارة ومراقبتها ليست مهمة بالنسبة إليها فحسب، بل بالنسبة إلى العالم بأسره. يوضح فيل تراثان، عالم البيئة الأعلى لدى هيئة المسح البريطاني في القطب الجنوبي: "قدرتنا على معرفة ما يحدث للنظم الإيكولوجية عندما تتعرض للاضطراب، ورؤية كيف يمكن أن تتغير في المستقبل، هذا أمر مهم حقا على مدى المائة عام المقبلة". عودة إلى إحصاء طيور البطريق أتعلم أن عمل إحصاء طيور البطريق أقل متعة مما يبدو؟ بعد يوم من أول نزهة ثلجية مع فريق فوريست، يتحسن الطقس، ونستطيع زيارة عديد من مستعمرات البطريق. مع اقترابنا تخرج رائحة ذرق الطائر النتنة لتلاقي القارب. ما إن نصل إلى الأرض، حتى تغطي بقع من هذه المخلفات الزلقة السطح، ما يجعل المشي تحديا. أحد الأمثلة على ظاهرة الاحتباس الحراري واضح منذ الآن ونحن نسير عبر المخلفات. هناك رذاذ من المطر، وتبدو فراخ البطريق رطبة وبائسة. معاطفها الناعمة تتكيف بشكل كبير مع الثلج، ولكنها أقل فعالية في المطر. يقول نوح سترايكر، أحد طلاب الدراسات العليا في ستوني بروك: "هذا بالتأكيد مصدر قلق لتغير المناخ، لأن درجات الحرارة في ازدياد. سيكون هناك مزيد من الأمطار خلال فصل الصيف". هذا البطريق مقياس للتحولات الأوسع في النظام البيئي. وحيث إنه أحد أنواع البطريق الصغيرة، فقد سمي باسم الشريط الأسود عبر ذقنه. الجولة التي التحقت بها تعمل تحت إدارة جامعة ستوني بروك وجامعة نورث وسترن، بدعم من منحة من منظمة بيو الخيرية Pew Charitable Trust. كما أن منظمة السلام الأخضر، التي أرسلت سفينتين من حملاتها لنقل الباحثين إلى المواقع التي يحتاجون إلى زيارتها، تقدم الدعم اللوجستي. لم كل هذا العناء؟ لنتعلم من البطريق لماذا يستحق الأمر قطع كل هذه المسافة، فقط لمعرفة ما إذا كان هناك 300 أو800 مخلوق في هذه الجزيرة المغطاة بمخلفات الطيور؟ يعترف سترايكر بقوله: " يبدو أن هذا أمر أساسي حقا– أن نحصي طيور البطريق. المسألة الأكبر هي أن طيور البطريق يمكنها أن تعلمنا أشياء عن بيئتها. إذا كان يمكنك تحديد عدد طيور البطريق الموجودة، فإن ذلك يساعدك على تحديد كم الكريل الموجود هناك".

مشاركة :