أكثر ما كان يلفت انتباهي في متابعتي لإبداعات الشاعر الراحل محمد الفيتوري، ليس فقط اهتمامه الكبير بقضايا إنسانية عميقة، أو تركيزه المتقن على قارته الأفريقية، والتي حصدت معظم اهتماماته، ولكن قدرته الفذة والجذابة على الاتيان بالصور الشعرية، التي كان بعضها مبتكرا، ويحمل رؤية شعرية غاية في الروعة. وهذا الافتتان جعلني أتعمق أكثر في قراءة قصائد الفيتوري، وبالتالي وصلت إلى قناعة بأن هذا الشاعر قد أعطى من مشاعره الكثير، كما كانت تجربته الشعرية ذات مصداقية لا يمكن إغفالها. ومن العلامات الفارقة في قصائد الفيتوري أنه تمكن من تجاوز مرحلة الغنائية، خصوصا في قصائده المتأخرة... وهي غنائية كادت أن تصل بشعره إلى المباشرة أو ما نطلق عليه (الخطابة)، وهذا التجاوز أسهم في ارتياده لغة شعرية تتبع أساليب تصويرية عدة، متناغمة مع تلك المفردات التي كانت مصاغة بأساليب شعرية، تترابط فيها التعابير والصور بأشكال متلاحقة ومتجددة، ومن ثم فقد أخذت هذه القصائد شهرتها، وذاع صيتها بين العامة والخاصة، وعرفت طريقها إلى أقلام النقاد والباحثين: الملايين أفاقت من كراها ما تراها... ملأ الأفق صداها خرجت تبحث عن تاريخها... بعد أن تاهت على الأرض وتاها. والصور الشعرية التي وضعها الفيتوري في قصائده، دائما ما كنت أراها مثالا للشاعرية، التي تعبر بصدق عن إنسان ينشد الخلود لقصائده، ويحاور مشاعره من أجل أن يصل إلى روح الحياة بما فيها من مؤثرات إنسانية مختلفة. فعاشق أفريقيا يقول: لا شيء في يدي لا شيء في فمي إلا بقايا مقطع قصير أعزفه بخجل على الورق. ولحديثي عن الشاعر الراحل محمد الفيتوري- الذي يحمل جناسي ثلاث دول عربية- السودانية والمصرية والليبية- سبب جوهري يتمثل في رغبتي في أن تكون تجربته الشعرية محل اهتمام الشعراء الشباب في مختلف بلداننا العربية، وذلك بسبب وحدتها العضوية، وتماسكها، وعدم الإخلال بالنظام الشعري، المبني على أسس سليمة، ولا أقصد في هذا المجال وحدة التفعيلة، ولكني أقصد البنية الشعرية، التي تتخذ من عمق الفكرة عمادا لها، والانتقال بين الأفكار بطلاقة ويسر، بعيدا عن التعقيدات اللفظية، أو الغموض المقصود به الغموض، أو التهويمات غير المبررة، واستسهال الكتابة بقصيدة النثر، تلك التي يتبعها البعض... لنجد أنهم يكتبون الشعر بلغة ركيكة، وأفكار سطحية، لا ترقى إلى مستوى الشعر. والفيتوري مثال جيد، يجب أن يتخذه الأدباء الشباب قدوة لتجاربهم الشعرية، من أجل الوصول إلى قصيدة تخاطب الحياة، وتبحث عن المعاناة، بصور شعرية جذابة، ومتماسكة في بنيتها ومفرداتها. هكذا دار في خلدي تجربة الفيتوري، وأنا أقرأ وأتابع بعض القصائد عبر أوعية النشر المختلفة، ومن ثم لاحظت أنه لا علاقة لها مطلقا بالمشاعر، ولا تعبر عن روح الإنسان المدافع عن العدالة الاجتماعية، والواقف ضد الظلم بكل أشكاله، كما أن الغموض يكتنفها، ولا توجد فيها أفكار واضحة. رئيس تحرير مجلة «البيان» وأكاديمي بجامعة الكويت* alsowaifan@yahoo.com
مشاركة :