ليس من قبيل المصادفة أبدًا أن يكتب المجتمع بكل انتماءاته أكثر من 70 مقالًا، إضافة إلى عدد كبير من النصوص عبر وسائل التواصل الاجتماعي، جميعُها تُندِّد بما وقع على الدكتور سعيد السريحي من ظلم كبير على إثر «حجب» درجته العلمية، وتطالب بإعادة فتح هذه القضية وكشف جميع ملابساتها!! ولا أعلم إن كانت هناك قضية -على امتداد تاريخ الجامعات السعودية- قد أخذت من المجتمع حجمَ الاهتمام الذي أخذَته قضية «دكتوراه السريحي». موقف هذا العدد الكبير من المجتمع (الأكاديمي والإعلامي والثقافي) الذي مارس التزامَه في التنديد بهذه الواقعة يُشكّل موقفًا أخلاقيًّا ومعرفيًّا في نفس الوقت.. أخلاقيًّا كون المجتمع رفض صراحة معظم ما قيل وتَلفظت به المؤسسة لتبرير فِعلَتِها التي فَعلتْ من مُنطلق أنها أخلَّت بالمبادئ الأخلاقيَّة الأوليَّة كالمصداقية والتعاون البنَّاء ووضوح المقصد، ولم تستطع -عبر كل ممارساتها الخطابيَّة التي جاءت على لسان بعض ممَّن كانوا مَعنيِّين مباشرة بهذه القضية- لم تستطع إقناع المجتمع بوجاهة المحاكمة التي وقعَتْ على العمل العلمي، فضلًا عن عدالتها. أما معرفيًّا فمن منطلق أن المجتمع لم يكن مُجازِفًا أو مُبالِغًا في وقوفه مع صاحب هذه القضية واعترافه المطلق بأحقيته فيما سعى إليه.. لقد وصل المجتمع -الذي التزم بالوقوف مع هذه الواقعة- إلى هذا الاعتراف المُطلَق بحق الدكتور سعيد السريحي في الحصول على درجته العلمية ليس باعتماده على ما قيل، ولا على الخطاب الرسمي، بل إنه تحمَّل بنفسه -عبر القراءة والتأمُّل- مسئوليتَه في الوقوف على ظروف إنتاجها.. كثيرون هم الذين يعرفون سعيد السريحي ومكانتَه العلميَّة، ولكن إرادة المجتمع واجتهاده لمعرفة حقيقة هذه الواقعة جعلته لا يكتشف فقط حجمَ الخطأ الذي وقع عليه، وإنما جعلت كثيرًا ممن لم يتعرَّف على سعيد السريحي يعلم أن الموضوع يتعلق بقامة فكريَّة «نوعية» لحقت بنماذج كبيرة، عربيَّة وغير عربيَّة، أصبحت -عبر عطائها وتوقُّدها المعرفي- أكبرَ بكثير من اللقب الأكاديمي. لقد اكتشف المجتمع -في عمومه- أنه إزاء «مثقف نوعي» -بالمعنى الذي يطرحه فوكو لهذا المفهوم- أمضى عمره محاولًا «تجزئة الواقع من أجل فَهمِه ومحاولة إعادة تشييده»، والتموضع في قلب هذا الواقع ليس للحصول أو البحث عن الحقيقة -التي من الممكن أن يُمسك بها أكبر عدد من الأفراد-، وإنما لـ»إنتاج الحقائق المتعلّقة باستعمالات وحدود هذه الحقيقة». لقد نَقِموا على سعيد السريحي كونه «مثقفًا نوعيًّا» ولهذا كان من ضمن مبررات الرفض التي أطلقها أحد المَعنيِّين بالقضية هو أن «السريحي يريد أن يفرض على الجامعة منهجًا جديدًا»!! ما أثار القلق والدهشة الكبيرة في نفس الوقت هو أن مؤسسة علميَّة لها تاريخها وضعت نفسها في مواجهة مع باحث يرى أن من غايات البحث السامية تجريب كلّ ما من شأنه أن يُعين الباحث عن المعرفة على الولوج إلى الظاهرة اللغوية من منطقة جديدة، أو إن جاز التعبير، من مناطق غير مألوفة. وهنا تتجلَّى -في ظني- عبر امتداد أعماله حتى يومنا هذا أهمية سعيد السريحي في أنه ذلك «المثقف النوعي» الذي لم يَتعالَ يومًا على الزمن، وإنما بذل ذاتَه لمواجهة كل خطاب يرمي إلى تقويض قيم المعرفة. كثيرون ممن تناول هذه الواقعة لا يزالون يرون أن من واجب إدارة الجامعة الراهنة -التي تفصل بينها وبين الإدارة التي أَدارَتْ هذه الواقعة مسافة زمنية كبيرة -من واجبها أن تُعيد الاعتبار لهذه الشخصية الوطنية الكبيرة، بغض النظر إن كان سعيد السريحي معنيًّا بهذا الاعتبار أم لم يكن معنيّا. المسألة كلّ المسألة تتعلَّق بواجب الجامعة الأخلاقي والمعرفي كونها مؤسسة علميَّة يكمُن جوهر قيمتها في احترام ومراعاة قيم المعرفة، ومن ثم لا يليق بها على الإطلاق المكابرة والإصرار على الخطأ والإجحاف. وعندما تقوم الجامعة بالكشف عن ظروف إنتاج هذه القضية المجتمعيَّة فإنها -في ظني- تقوم بممارسة دورها المعرفيّ ومسئوليتها أمام المجتمع الذي تبنَّى هذه الواقعة في نفس الوقت. البعدُ الأساسيّ الآخر لهذه الواقعة الأخلاقية والعلمية يتعلق بمشروعية طرح تساؤل قد لا يخلو من الوجاهة وهو: أين تقف الجامعة السعودية إزاء مسألة «الحرية الأكاديمية»؟ وما موقف نظام الجامعات الجديد من هذه المسألة؟ هل تضمَّن نظام الجامعات الجديد فقرات محددة (لائحةً) تُعلي وتَحمي «الحرية الأكاديمية»؟ مع الوعي -بطبيعة الحال- بأن هناك فرقًا بين مفهومي «استقلال الجامعة» و»الحرية الأكاديمية»؛ إذ إننا -كما هو معروف- أمام عمليتين تكامليَّتَين تتقاطعان في بعض الجزئيات. ومعروف أن مفهوم «الحرية الأكاديمية» مفهوم شامل يُحيلُ إلى جميع أقطاب ومضامين العمليات المعرفية في الجامعة (البحث، التعلُّم، الأستاذ، الطالب...). ما يُهمّنا هنا هو حالة ودور ووضع «الحرية الأكاديمية» في الجامعات السعودية. من المعلوم أن هذا المفهوم من المفاهيم الراسخة في التقاليد الجامعية العالمية، وسبق أن أثار نقاشات عميقة وأحاط به خطابات ونضالات أفضَتْ في القرن السابع عشر إلى اعتماد هذا المفهوم الذي يعني في أحد تعريفاته: «الحماية من القيود والضغوط التي يُمكن أن تَفرِضَها السلطات السياسية أو الإدارية أو غيرها من السلطات أو القوى أو جماعات النفوذ خارج أو داخل الجامعة، والتي من شأنها أن تبثّ الخوف في نفوس العاملين بالجامعة من طلاب وأساتذة وباحثين، وتعني أن لا يضطهد أو يُضار أحد نتيجة آرائه». (أحمد الزنفلي نقلًا عن أحمد الشبراوي عباس). ويرى روبيرت ليبير أن الحرية الأكاديمية «تتضمَّن حُريَّتين هما: حرية البحث عن الحقيقة، وحريةُ التعبير عنها». (نقلًا عن رياض هادي، الجامعات، ص40). مع وجوب القول إنه منذ بداية الوعي بأهمية هذا السلوك الأكاديمي، مرورًا بإعلان ليما وانتهاء بمؤتمر اليونسكو الشهير (1998) الذي أطَّرَ لـ»الحرية الأكاديمية» بمفهومها الشامل والمتعدد الأبعاد، وما تلاه بطبيعة الحال من مؤتمرات تناقش هذه المسألة، فإن الملاحظ أن جميع هذه المؤتمرات لم تترك الباب مفتوحًا على مصارعيه لممارسة الحرية الأكاديمية، بل إنها سعت في كل مرة إلى استدراك أنه لا يمكن أن تُترك الحرية الأكاديمية دون أن تكون مقيَّدة بشروط محدَّدة بعيدة عن الأهواء الأيديولوجية أو الشخصية. أي بالمعنى الذي يراه باسيل فلتشر من أن «مثل هذه الحرية [الأكاديمية] تُبرِّر نفسَها فقط عندما تستخدَم في متابعة مهمات الجامعة وأغراضها وفيما إذا استطاعت أن تسمح لأساتذتها أن يستخدموا هذه الحرية لأهداف الجامعة وليس لأهدافهم هم...». (نقلًا عن رياض هادي، الجامعات، ص57). في سياق «الحرية الأكاديمية» في التعليم السعودي حاول الدكتور مشاري النعيم في مقاله «الحرية الأكاديمية والإصلاح: من التغيير إلى الاستقرار» (صحيفة الرياض، فبراير 2006) حاول لفْت الانتباه إلى أنَّ من أهم المتطلبات نحو ممارسة هذا السلوك الأكاديمي العريق هو الاشتغال على إبعاد التعليم عن عمليات «التوجيه والأدلجة»، ومحاولة التأسيس لثقافة حرية أكاديمية «ممكنة» تُشيَّد علاقتها مع الدولة في «حدود الأمن القومي»، وهو محق بإشارته إلى ذلك، إذ إنَّ «أكبر الدول الديمقراطية التي تنادي بحرية التعليم واستقلاليته تتدخَّل الدولة في سياسة التعليم ومحتوياته كي تحافظ على حدٍّ أدنى من الانسجام والأمن الاجتماعي». يُحمد كثيرًا لمشاري النعيم ولكل من حاول لفت الانتباه إلى ضرورة التفكير في مسألة «الحرية الأكاديمية» كمفهوم وتقليد أكاديميّ لابد أن يُشكل جوهر عمل العملية التعليمية في السعودية. ويمكن القول - فيما يتعلق بالحالة الراهنة وفي ظل التحولات الشاملة التي تسير في كل الاتجاهات (الاقتصادية والثقافية والتعليمية)-: إنه صحيح أن مجموعة من الجامعات السعودية نجحتْ في أن تتبوَّأَ مكانة مشرفة على مستوى التصنيفات العالمية، مما يُعدّ مفخرة ومحلَّ اعتزاز كبيرين لكل من ينتمي لهذا الوطن الكبير ويتمنَّى له الازدهار، إلا أنه في الوقت نفسه علينا التفكير في حجم وأهمية الدور الذي تقوم به جامعاتنا في مُسايرة هذه الإصلاحات والتحولات. السعودية هذا العام تستقبل قمَّة العشرين، وبهذه المناسبة التاريخية من المؤكَّد أن العالم لن يكتفي بالنظر إلينا، بل إنه سوف يُمعن في (رؤية) تفاصيل كثيرة ودقيقة في مجتمعنا ومؤسساتنا. هذه فرصة تاريخية لكي تُخاطب الجامعة السعودية العالم مباشرة، وتطرح مجموعة من القضايا الكبرى والإشكاليات التي تعاني منها المجتمعات للنقاش. القمة سوف تُناقش قضاياها المدرجة، لكن الجامعات السعودية من المفترض أن تعقد هي قمَّتها (كما فعل بعض الأعضاء في مجموعة العشرين) وتستضيف أهمّ الجامعات في العالم، إما لمناقشة القضايا نفسها المعلنة وتخرج برؤيتها، أو أنها تناقش ما ترغب الجامعات العالمية بمناقشته، بخاصة الأزمات المشتركة التي تعاني منها الجامعات على مستوى العالم وعلاقتها بأشكال التنمية. موضوع «الحرية الأكاديمية» موضوع حيوي للغاية؛ لذا فإن الأمل كبير في أن تتخذَ الجامعة السعودية خطوات مباشرة نحو تشييد علاقة صحيحة وصحية مع «حرية أكاديمية» تنطلق من مواقع أصالتنا ومبادئنا، وتحمي حرية ممارستها والتعبير عنها، وإلا فإنه سوف يصعب عليها حماية نفسها من إشكاليات متعدِّدة ومتنوعة، وسوف تعاني أيضاً من تقديم نفسها للعالم (سواء في قمة العشرين أو غيرها) كمؤسسات مرجعية لقِيم المعرفة.
مشاركة :