مصدر الصورةDiane SelkirkImage caption تخطط "هاربر أير سي بلَينز" لتسيير كل طائرات الركاب المائية الصغيرة، التي يتألف منها أسطولها، بمحركات كهربائية. في صباح أحد أيام ديسمبر/كانون الأول الماضي، قطعت طائرة من طراز "دي هافيلاند دي إتش سي-2 بيفر"، رحلة لم تستمر أكثر من أربع دقائق، بدأتها وأنهتها في نفس المكان على سطح نهر فريزر في كندا. قصر مدة الرحلة كان يعود إلى أن الطائرة، التي لا تتسع سوى لستة ركاب، لا تستطيع التحليق سوى في أجواء صافية، وكانت التوقعات الجوية في ذلك اليوم، تشير إلى اقتراب هطول الأمطار على المنطقة. لكن رحلة تلك الطائرة الصغيرة - على قِصرها - قد تُشكِّل انطلاقة لثورة في عالم الطيران. فربما تسنى لمن كانوا على الشاطئ القريب من "دي هافيلاند" خلال تحليقها، وأرهفوا السمع للصوت الصادر منها جراء ذلك، أن يميزوا غياب الهدير، الذي ينجم عادة عن دوران محركها، المؤلف من تسع أسطوانات. ولم يكن ذلك غريبا، فالطائرة المائية كانت تحلق في الأجواء، بفضل محرك دفع يعمل بالكامل بالطاقة الكهربائية، لتمثل رحلة الدقائق الأربع هذه المرة الأولى على الإطلاق التي تحلق فيها طائرة تجارية في السماء، باستخدام محرك كهربائي بالكامل. وطورت شركة تكنولوجيا تحمل اسم "ماغني إكس" المحرك، الذي استُخْدِمَ في هذه التجربة، وذلك بالتعاون مع شركة "هاربر أير سي بلَينز" الكندية للطيران، لتحويل إحدى الطائرات المائية المملوكة للأخيرة، إلى طائرة قادرة على التحليق بطاقة البطارية، بدلا من الوقود الأحفوري. مصدر الصورةDiane SelkirkImage caption أجرت الطائرة المُعدلّة رحلتها التجريبية - التي لم تستمر سوى أربع دقائق - فوق نهر فريزر في كندا ومن بين مَن شاركوا في الجهود التي قادت لتحقيق هذا الهدف، روي غانزرسكي، الرئيس التنفيذي لـ "ماغني إكس"، الذي يصف الرحلة التي أسهمت شركته في إطلاقها، بأنها "التجربة الأولى على صعيد ثورة الطيران باستخدام الطاقة الكهربائية". أما غريغ ماكدوغال، مؤسس "هاربر أير سي بلَينز" والطيار الذي قاد الطائرة خلال رحلتها التجريبية، فيعتبر الرحلة تتويجا لسنوات من الجهود التي بذلتها شركته، لوضع البيئة نصب عينيها، خلال ممارستها لأنشطتها، التي تتمثل في تسيير رحلات يومية لخدمة الراغبين في السفر بين المناطق الساحلية القريبة، من مدن فانكوفر وفيكتوريا في كندا وسياتل في الولايات المتحدة. ففي عام 2007، أصبحت "هاربر أير سي بلَينز" - التي يتألف أسطولها من نحو 40 طائرة مائية - أول شركة طيران في أمريكا الشمالية، تجعل الانبعاثات الكربونية الناجمة عن أنشطتها مساوية لتلك التي تُمتص من الغلاف الجوي. وأعقبت ذلك، بتغطية صالة الوصول والإقلاع الجديدة الخاصة بها في فيكتوريا، بسقف أخضر، مزروع بالكامل بالنباتات، على مساحة بلغت فدانا كاملا. وفي عام 2017، أضافت الشركة الكندية إلى المكان 50 من الألواح الخاصة بامتصاص الطاقة الشمسية، وأربع خلايا نحل تضم قرابة 10 آلاف نحلة. لكن كل هذه الجهود، لم تُنس ماكدوغال أن الهدف الرئيسي بالنسبة له، يتمثل في تحويل أسطول شركته من الطائرات، للعمل بالطاقة الكهربائية. وللوصول إلى هذه الغاية، ظل هذا الرجل يبحث لعدة سنوات عن خيارات بديلة للمحركات التي تعمل بالوقود التقليدي. واضطر في لحظة ما لتأجيل الخطة برمتها، إلى أن فاتحه غانزرسكي في فبراير/شباط 2019 بإمكانية التعاون بين الشركتين في هذا الشأن. ويتذكر ماكدوغال تلك اللحظة بالقول: "قال لي غانزرسكي ‘لدينا محرك نريد أن نحصل على شهادة بصلاحيته للاستخدام على المستوى التجاري، كما أننا نرغب في أن نستخدمه في رحلة طيران قبل نهاية هذا العام‘". وسرعان ما تبلورت شراكة بين هاتين الشركتين، بفضل توافق القيم البيئية التي تتبناها كل منهما، والانسجام الذي نشأ بين فرق العمل فيهما. وبعد شهور، أصبح لدى شركة الطيران الكندية المتواضعة هذه، ما يصفه ماكدوغال بـ "طائرة كهربائية" قادرة على التحليق في الأجواء، لتتفوق بذلك على باقي المشروعات، التي تعكف عليها شركات أخرى في هذا المضمار. ومن بين هذه الشركات أسماء كبرى مثل "إيرباص" و"بوينغ" و"رولز رويس".مصدر الصورةDiane SelkirkImage caption جاءت هذه الرحلة التجريبية بعد سنوات من الجهود التي بذلها غريغ ماكدوغال لجعل شركته للطيران صديقة للبيئة ويقول غريغ ماكدوغال إن المشروع الذي تعاونت فيه شركته مع ""ماغني إكس"، أُنْجِزَ في وقت قياسي بالنظر إلى مدى حرص صناعة الطيران على تجنب المخاطر في الخطوات التي تتخذها الشركات العاملة في إطارها. لكنه يضيف: "كان يتعين على أحد ما أن يأخذ بزمام المبادرة"، موضحا أن "السبب الذي يحدو بي للعيش في كولومبيا البريطانية هو الهواء الطلق الذي نستمتع به هنا، والذي نضع أولوية قصوى لحمايته من التلوث. من جهة أخرى، كان من المنطقي بالنسبة لنا أن ننخرط في المشروعات الخاصة بتطوير طائرات تستخدم الطاقة الكهربائية، وأن تكون لنا الريادة على هذا الصعيد، وذلك لاغتنام الفوائد الناجمة عن ذلك". على أي حال، لا يشكل استخدام الطاقة الكهربائية في تسيير الطائرات أمرا جديدا من نوعه، فقد بدأ التفكير فيه وتجربته منذ سبعينيات القرن الماضي. لكن ذلك ظل قاصرا على تسيير؛ إما الطائرات الخفيفة التجريبية التي تطير لمسافات قصيرة، أو تلك التي تعمل بالطاقة الشمسية والمزودة بأجنحة ضخمة، وكلا النوعين لا يمكنه حمل ركاب. غير أن تفاقم التهديد الذي تواجهه الأرض بفعل ظاهرة التغير المناخي، أدى إلى تزايد الاهتمام من جديد، بتطوير طائرة ركاب تعمل بالطاقة الكهربائية، وذلك كوسيلة لتقليص معدل الانبعاثات الكربونية وتكاليف التشغيل التي تتحملها شركات الطيران. وبحسب شركة "رولاند بيرغر" للاستشارات، يشهد العالم في الوقت الراهن قرابة 170 مشروعا لتطوير طائرة بهذه المواصفات. وقد ظهر نحو 50 في المئة من هذه المشروعات منذ إبريل/نيسان 2017. وترمي الكثير من تلك المشاريع لتطوير طائرات يتم بيعها لأفراد لاستخدامها في ما يحلو لهم من أغراض، أو أخرى تقدم خدمات كتسليم الطرود، أو نقل الركاب بالأجر في المناطق الحضرية. أما شركة طيران كبرى مثل "إيرباص"، فتسعى من خلال المشروع الذي تتبناه في هذا الشأن، إلى تسيير أسطولها من الطائرات، بمحركات تعمل بالطاقة الكهربائية. وتعتزم الشركة، أن تطلق الرحلة الأولى لنموذجها التجريبي من طائرات الركاب التجارية - التي تعمل بمحرك هجين يحمل اسم "إي-فان إكس" - بحلول عام 2021. غير أن هذا النموذج لن يُسيّر بالطاقة الكهربائية وحدها، وإنما سيُستعاض عن أحد محركاته الأربعة، بمحرك كهربائي، يستمد طاقته من بطارية موضوعة على متن الطائرة. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption غالبية "الطائرات الكهربائية" التي تم تسييّرها حتى الآن تتمثل في طائرات خفيفة وصغيرة لا تناسب نقل الركاب ومن هذا المنطلق، تبدو شركة "هاربر أير سي بلَينز" مختلفة عن نظيراتها، في ما يتعلق باستفادتها من تقنية "الطائرات الكهربائية". وقد يعود ذلك إلى أن بوسع طائراتها، إعادة شحن بطارياتها بشكل منتظم، بالنظر إلى أن أسطولها يتألف من طائرات مائية صغيرة، تقوم برحلات قصيرة على طول الساحل الممتد، ما بين مقاطعة كولومبيا البريطانية في كندا وولاية واشنطن الأمريكية. ولذا ترى هذه الشركة أنها في وضع يُمَكِّنها من تعديل أسطولها من الطائرات - القادرة على الطفو فوق سطح الماء - لتعمل بالكهرباء، ما يجعل السفر الجوي في المنطقة التي تغطيها رحلاتها، صديقا للبيئة بقدر الإمكان. وقد يترتب على ذلك بعض الفوائد؛ من بينها احتواء المحركات الكهربائية اللازمة لتسيير طائرات من النوع الذي تُشغلّه تلك الشركة الكندية، على عدد أقل من الأجزاء المتحركة، ما يقلل عمليات الصيانة وتكاليفها بالتبعية. بجانب ذلك، تتصف المحركات التقليدية المستخدمة في ذاك النوع من الطائرات العائمة بتدني الكفاءة، ما يجعل جانبا كبيرا من الطاقة المستمدة من الوقود الأحفوري الذي تعتمد عليه، يُبدد في صورة حرارة مُهدرة، خلال تدوير المحرك للمروحة من أجل دفع الطائرة إلى الأمام. لكن بالرغم من أن إريكا هولتز، المسؤولة عن القسم الهندسي وإدارة الحفاظ على الجودة في "هاربر أير سي بلَينز"، تعتبر أن التوجه لتسيير الطائرات بمحركات تعمل بالطاقة الكهربائية، يمثل "التطور الكبير المرتقب في عالم الطيران"، فإنها تحذر من أن مسألة السلامة، قد تشكل إحدى العقبات، التي يمكن أن تقف حجر عثرة على هذا الطريق. فبحسب قولها، تتميز "الأنظمة الميكانيكية (التي تشمل المحركات العاملة بالوقود الأحفوري) بأنها معروفة وموثوق بها بشكل أكبر"، في مقابل المنظومات الكهربائية للتشغيل، غير المعروفة للناس بالقدر نفسه. وتوضح هولتز قائلة إن "إيقاف تشغيل (المحرك العامل بالكهرباء) وإعادة تشغيله، لا يمثل خيارا على الإطلاق في مجال الطيران". مع ذلك، تشعر هولتز بالحماس لعملها في مشروع تطوير "طائرة كهربائية"، نظرا لأن ذلك قد يُمَكِنّها من المشاركة في إحداث تغيير قابل للبقاء على الدوام في عالم السفر الجوي، في ضوء ما تعتبره ركودا شهدته التقنيات المستخدمة على هذا الصعيد خلال العقود الماضية. وتقول: " لم نشهد تطورا كبيرا في مجال الطيران خلال 50 عاما، رغم وجود تحسينات إضافية أُدْخِلَت على تقنيات بعينها في هذا المجال". مصدر الصورةDiane SelkirkImage caption رغم أن المحركات الكهربائية أكثر كفاءة من نظيرتها التقليدية، فلا تزال البطاريات المستخدمة في ذلك النوع من المحركات غير قادرة على المنافسة وتشكل زيادة كفاءة البطاريات، التي تعتمد عليها المحركات الكهربائية المُستخدمة في السفر الجوي، أحد المجالات التي تحتاج إلى بذل مزيد من الجهود على صعيد تطوير "طائرات كهربائية". فالكثير من الخبراء يتشككون في إمكانية أن نشهد قريبا ظهور طائرات ركاب كبيرة، تُسيّر باستخدام الطاقة الكهربائية وحدها، إذ أن البطاريات المتاحة في الوقت الراهن، لا تُقارن بالمحركات التقليدية، في ما يتعلق بالمسافة التي يمكن أن تسير بها الطائرة باستخدام كل منهما، إذ تساوى النوعان في الوزن. وتقول هولتز: "كثافة الطاقة في وقود الطيران عالية بشدة، لتصل إلى حدود توليد نحو 1200 وات لكل كيلوغرام (من وزن المحرك). أما بالنسبة للبطارية من نوع أيون الليثيوم، فيبلغ حجم الطاقة حوالي 200 وات لكل كيلوغرام"، وهو ما يعني أن تسيير طائرة لمسافة ما ببطارية بدلا من محرك تقليدي، يستلزم أن يزيد وزن البطارية بواقع ستة أضعاف على وزن المحرك. لكن الرحلات القصيرة، التي تُسيّرها شركة "هاربر أير سي بلَينز"، باستخدام طائرات صغيرة تعمل بمحرك أو اثنين لا تحتاج لطاقة كبيرة، ما يعني أن تلك الطائرات ليست بحاجة لبطاريات ثقيلة الوزن. وهو ما يعلق عليه ماكدوغال بالقول: "من الممكن السفر على غالبية مسارات خطوطنا الملاحية، باستخدام التقنيات المتاحة اليوم". وتعني قدرة الشركة الكندية على الاستعانة بالتقنيات الموجودة حاليا، التي تشمل بدن الطائرة من طراز "بيفر" الذي طوِّرَ قبل 62 عاما وبطاريات أيون الليثيوم التي صرّحت وكالة "ناسا" باستخدامها، أنه من المتوقع أن يكون حصولها، على تصريح بالطيران من جانب الجهات المنظمة في الولايات المتحدة وكندا، أسهل من نظيرتها من الطائرات الأخرى، التي يتم تطويرها من نقطة الصفر، لكي تستطيع التحليق باستخدام محركات كهربائية. وتأمل "هاربر أير سي بلَينز" في أن يتسنى لها خلال أقل من عامين، تسيير رحلات مدفوعة تقل ركابا، باستخدام طائراتها الكهربائية. وتقول إريكا هولتز: "رغم أن كندا لا تُعرف عادة بأنها مركز للابتكار والإبداع وتتسم بأنها بلد منظم للغاية، وهو ما ينسحب على الطيران في أجوائه كذلك، تحاول الإدارة المسؤولة عن النقل هناك - التي تحمل اسم `ترانسبورت كندا` - مساعدتنا على تجاوز العقبات، بدلا من أن تضعها في طريقنا". رغم ذلك، فمن غير المرجح أن يكون لجهود تلك الشركة الرامية لـ "كهربة أسطولها"، تأثير كبير على حجم انبعاثات الكربون الناجمة عن السفر بالجو. ويقول باحثون بارزون في معهد الطاقة التابع لكلية لندن الجامعية إن "الطائرات التي تقل ما بين راكبين و12 راكبا، لا تُسبب سوى قدر ضئيل للغاية من انبعاثات الكربون الناجمة عن السفر الجوي على مستوى العالم". لكن الباحثين يرون أن التأثير الأكبر الذي يمكن أن تُخلّفه جهود مثل هذه، سينصب على نظرة الجمهور العام لمسألة ركوب طائرات تعمل بمحركات كهربائية. ويوضحون بالقول: "تكتسب مسألة طرح هذه النماذج التجريبية في السوق قيمة كبيرة، ما يمنح تلك التقنية الفرصة لكي يألفها الناس ويثقوا فيها بشكل أكبر". وبحسب بيانات "المجلس الدولي للنقل النظيف"، يتسبب السفر بالطائرات في ما يُقدر بـ 2.4 في المئة من الانبعاثات الكربونية على مستوى العالم. وترتبط 24 في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الناجمة عن نقل الركاب جوا، برحلات انطلقت من الولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف، يقول غانزرسكي، الرئيس التنفيذي لـ "ماغني إكس"، إن "فكرة تسيير الرحلات الجوية بمحركات كهربائية، ما يعني القضاء على الانبعاثات الكربونية وتقليص تكاليف التشغيل، أمر يجدر بالعالم بأسره تبنيه والاحتفاء به. وسيكون الوضع أفضل كلما انخرط فيه عدد أكبر من الشركات، لكننا سنكون دائما في المقدمة، لنقود المسيرة". يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future
مشاركة :