الاقتراب من لحظة الانتحار الجماعي

  • 6/8/2015
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

عند تشخيص الأزمة التي يعيشها العالم العربي في مواجهة الهزيمة الحضارية الناجمة عن الفشل في تحقيق أي شكل من اشكال النهوض، إضافة الى الفشل السياسي المزمن يمكننا رصد وجهين متكاملين من وجوه هذه الازمة المركبة: وجه ماضوي ووجه حداثوي، وهما الوجهان اللذان باتا يصنعان الوهم، بدلا من مواجهة الفشل بتشخيص أسبابه الحقيقية تمهيدا للتجاوز. أولا: على صعيد اجتراح الحلول من الماضي، يحذر المفكر العربي سمير أمين مِنْ أنَّنا في الواقع ننخرط في عمليَّة انتحار تاريخيّ بلجوئنا حتَّى الآن لردّ الفعل الماضويّ الاصولي الذي لا يجيب على تحدِّيات العصر، وإنَّما يكرِّس الحالة الطرفيَّة الهامشيَّة التي نعيش في إطارها والتي تريدنا المراكز الرأسماليَّة الغربيَّة أنْ نبقى في إطارها. فالأيديولوجيا الماضويَّة الأصولية بأشكالها المختلفة توفر للحالة الهامشيَّة غطاءً الخصوصية (حتَّى وإنْ كان زائفاً)، وتسهم في تثبيت ردود الفعل الشعبيَّة على التحدِّيات الحضارية الكبرى (التقدم-الحداثة-التنمية-العلمنة...) عند المستوى السلبيّ (اللجوء الى الماضي والتلبس بمظاهره الشكلية والطقوسية كمحاولة للعيش في وهم صفحة انتهت وقلبت منذ سقوط بغداد في أواسط القرن 13 ميلادي). وهذه الردود التي مضى عليها اكثر من قرن من الزمان ما تزال تطرح حلولا غير واقعية لواقع مركب ويحتاج الى حلول حقيقية، من نوع ( دولة الخلافة- والإسلام هو الحل- والعودة الى المنابع- وتطبيق الشريعة إلخ...) عادت لتظهر مجددا وتنتعش بأكثر قوة بعد سقوط المشروع القومي العربي بشكليه الناصري والبعثي، والدخول مرحلة انعدام المشاريع التي تكون سلاحاً فعَّالاً لبناء المشاريع والطموحات النهضويَّة التحرُّريَّة الحقيقيَّة، وعدا عن ذلك فإن ردود الأفعال التراجعية هذه وان كانت بعض مظاهرها قد توحي بقوة ظاهرية مثل قوة بعض التيارات الأصولية المتوحشة التي تحتل بعض الأراضي في سوريا العراق- تتيح للغرب أنْ يعتِّم على حقيقة الاستقطاب الحادّ في النظام الرأسماليّ الدوليّ ما بين مراكز تنعم بالنصيب الأكبر من السلطة والثروة والرفاهية وبين هوامش وأطرف تعاني من الفقر والاستغلال، ليتحدَّث بدلاً من ذلك عن الانقسام، وفق معادلة التخلّف والتقدّم، كما لو كان حالة قدريَّة، لا علاقة لها بطبيعة النظام الرأسماليّ الدوليّ المتوحش. ثانيا: على صعيد صناعة الوهم الحداثوي التابع للغالب: فهذا الاتجاه يبدو ان انه يطبق معادلة ابن خلدون في مقدمته (الغالب مولع دوما باتباع المغلوب) مع انها نظرية تفتقر الى الدقة والصحة بالرغم من ان الذي صاغها هو ابن خلدون نفسه (ما أدراك!!). فهؤلاء الحداثويون يعتبرون انه لا فكاك لنا من الازمة والفشل الحضاري الا باتباع خطى مرسومة لنا غريبا، ويستشهدون بنظرية فوكوياما المسماة بــنهاية التاريخ أونهاية الأيديولوجيا، وأنه لا بديل لنا إلا اتباع النمط الليبرالي الجدي، لأنه قدرنا الذي لا فكاك منه. والملفت أنَّ مَنْ يقولون بنهاية الأيديولوجيا هم أنفسهم مَنْ يتبنّون في العادة أيديولوجيَّات متزمِّتة؛ مثل الليبراليَّة الجديدة؛ حيث تصل مفاهيم حريَّة السوق والخصخصة لدى أصحاب هذا الاتِّجاه إلى مستوى العقيدة التي لا تقبل التشكيك أو المناقشة، بل إنهم ينطلقون للهجوم على الخصوم مِنْ منطلقات أيديولوجيَّة أكثر تشدُّداً؛ إنَّهم في الواقع يتستَّرون على أيديولوجيَّاتهم ثمَّ يقدِّمونها على أنَّها حقائق عابرة للتاريخ وتسمو على الواقع، وما عدا ذلك فأيديولوجيَّات باطلة وبائدة. وفي هذا السياق، ذاته، ظهرتْ الأفكار التي تتحدَّث عن ثقافة بلا أيديولوجيا، بل وأكثر مِنْ ذلك أصبحوا يتحدثون عن أحزاب منزوعة الأيديولوجيا، غير منحازة وغير مرتبطة بواقع معيَّن ولا تخدم مصالح معيَّنة ولا تسترشد بمنظومة فكريَّة معيَّنة !!! ومن منطق انتهاء زمن الأيديولوجيا-الا الأيديولوجية الليبرالية الجديدة طبعا) يتحدثون عن انتهاء دور المثقَّف المنتمي المناضل من أجل وطنه وشعبه واستقلال ارادته-المثقف المستنير العضوي، استنادا إلى مزاعم انتهاء الصراع وانتهاء التناقضات والانقسامات الاجتماعيَّة والفكريَّة وانتهاء القضايا والطموحات الوطنيَّة والقومية المشروعة والإنسانيَّة. وإذن فإن المدخلين يؤديان بنا الى حالة من الضياع، لأن الواقع هو الذي يغيب عنهما غيابا كاملا، ولذلك فإنه وبالرغم من اختلاف المنطق فالاتجاهان يقعان في نفس الخطأ من خلال القيام بعملية تلبيس، تركب الحاضر على الماضي أو تركب الواقع على حاضر الاخرين ( الحداثة المزيفة)، مع تجاهل الواقع تجاهلاً تاماً والهرع إلى الماضي للبحث عن حلول للواقع وكان حلول الواقع موجودة في الماضي، أو موجودة جاهزة عند الاخرين ويمكن استيرادها، كما نستورد التقنية والأجهزة والأدوية والغذاء، في حين أن الحلول موجودة في واقعنا ونابعة منه، وهذا في الواقع ناتج عن تصور خاطئ لمفهوم الإحالة والمعاصرة بحيث تصبح الأصالة هي الماضي والمعاصر هي أوروبا ،في حين أن الأصالة هي الواقع بكل ما يحتويه من مكونات- بما فيها التراث باعتبار جزءا من الواقع- وأما المعاصر فهي أداة النظر إلى هذا الواقع، وهي التي يجب أن تكون أداة عملية لا غيبية، وبالتالي فإن الخلل يتمثل في الجري وراء البحث عن الانسجام مع الماضي لا الانسجام مع الواقع، وهي رؤية سقيمة لأنها لا تعتبر الواقع هو المحك وهذا هو الخلل المنهجي الذي يعاني منه العرب في تعاطيهم مع معضلاتهم الحضارية. همسة أشتاق مطر الأصيل، نسمات الجنوب وقت المساء، اشتاق -إن مت-أن أسكن حضن الزهور، يملأ العشبُ كلَّ مكان، تتقافز العصافير في الأكمات، يشدو البعاد شدوَ الحنين، تشكو الطيور لحن الفراق، لا أحد يتلو، لا أحد ينعى، أو يغني نشيد الغياب، ورد المساء وصوت الحنين، أجراس بعيدة، تَسّللُ خلف السجوف: تعالي بُعيد الغياب، تعالي وراء الحجاب.. غياب الموسيقى، وجوقة الكاذبين

مشاركة :