إشارات ومواقف تتقاطع في نسيج أحدث مجموعة قصصية لشريف عبد المجيد

  • 6/8/2015
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

تلعب المجموعة القصصية «تاكسي أبيض» للكاتب المصري شريف عبد المجيد الصادرة حديثا عن الدار المصرية اللبنانية على وتر الفانتازيا وشطح الخيال والحلم، وتشكل منها فضاء سرديا شيقا لشخوصها الذين يبحثون عن حلقة فارغة أصبحوا جزءا منها.. وأشباه أبطال تضعهم المصادفة ومفارقات الحياة القاسية دائما على عتبة بطولة ملتبسة وشائكة لم يسعوا إليها. ADVERTISING ومن ثم، تبحث قصص المجموعة عن معقولية ما للعبث فنيا ونفسيا، في مقابل واقع لا يكف عن العبث، وتبرير نفسه دوما في ظلاله، إلى حد الزهو بإحباطاته وانكساراته، وتغليفها بشبكة من العلاقات والرؤى والأفكار، يختلط فيه الحلم بالوهم، والوجود بالعدم. يعي الكاتب أبعاد هذا التناقض، ويقرر اللعب معه بالبحث عن براءة الرعب في الرعب نفسه، مقسما مجموعته إلى قسمين؛ الأول وهو بعنوان «القبض على سمكة» صدّره بعبارة تمهيدية من قصة «سور الصين العظيم» للكاتب الألماني الشهر فرانز كافكا تقول: «لا أحد يمكنه أن يقاتل ليشق لنفسه طريقا عبر هذا المكان، حتى لو كان مزودا برسالة لرجل ميت، لكن يمكنك أن تجلس على نافذتك، عند هبوط المساء، وتحلم بما في هذه الرسالة بنفسك». تشكل هذه الرسالة مفتاحا دالا على عوالم قصص هذا القسم، حيث تسيطر أجواء الفانتازيا، والحكايات الكابوسية، التي تصل إلى حد الخرافة بإيقاعيها الميتافيزيقي والشعبي على صراعات الشخوص مع واقعهم، سواء على المستويين الخاص والعام، فهي شخوص متشككة، حذرة، مترددة، مفتقدة الطمأنينة في خطواتها، ونظرتها لذاتها وللعالم والأشياء من حولها، حيث نجد أنفسنا دائما إزاء شيء ما غامض، يصعب تفسيره وكشف حقيقته، رغم أنه يحدث في الواقع، ويتجسد في وقائع محددة. فمن طرد «الجماجم» لشاب في الثلاثين، الموضوع في كيس أسود داخل حقيبة رياضية غالية الثمن على باب شقة الوزير المسؤول، الذي يتكرر، في أماكن أخرى كثيرة، بالهيئة نفسها، ويستمر حتى بعد أن قدمت الحكومة استقالتها، وتم إجراء الانتخابات وتعديل الدستور. ثم الخرافة بثوبها الشعبي في قصة «العمل»، وصراع الجمال والقبح، بين امرأتين متجاورتين في السكن، حيث تنتصر المرأة القبيحة، وتتزوج وتنجب باقة من الأولاد، بينما لا تحصد المرأة الجميلة سوى دور العنوسة، وتعتقد بعد أن تقدمت بها السن، أن زوج صديقتها القبيحة، كان المفروض أن يتزوجها هي، لكنها خطفته منها بقوة السحر، لذلك وقر في نفسها أنها المسؤولة عن فساد حياتها، وبعد موت الصديقة يحولها هوس الانتقام منها إلى قديسة، حيث تذهب لقبرها وتنبشه لتخرج منه تميمة السحر، وتفك النحس الملازم لحياتها الآفلة، لكن الناس يظنون ذلك نوعا من الوفاء النادر لصديقتها التي لا تطيق فراقها، وتريد أن تجمع عظامها لتأنس بها. أيضا الموت الافتراضي، ومشاهده المتكررة، والمتقاطعة مع حياة البطل الموظف البسيط، الذي يخضع لتحقيق عبثي بشأن زميلته الموظفة الأمينة التي أحيلت إلى المعاش المبكر، عقابا على رفضها المشاركة في جرائم الرشوة والفساد. وكذلك في قصة «القبض على سمكة قرش»، حيث يصبح العبث أحد الحلول أو مخرجا إيجابيا للخروج من الأزمة التي ضربت سوق السياحة إثر فتك سمكة قرش بحياة سائحة ألمانية كانت تسبح في البحر. ويتحول عبث الطبيعة وكائناتها الرهيفة إلى طاقة سلبية ونذير شؤم، وهاجس محرض على نهش الذات وجلدها، مما يقوض حياتها المستقرة، ويقلبها رأسا على عقب. وهو ما يتجسد في قصة «السيد الذي يحب الطيور»، حيث تنقلب حياة سمسار البورصة الأنيق الثري، وبفقد أسرته السعيدة، معتقدا أن الطيور تتقصده وتشن حربا هوجاء عليه، بروثها الذي يتساقط على ثيابه الأنيقة ونظارته وعربته، وهو عائد إلى بيته الفخم، في أحد الأبراج السكنية، ولا يجد حلا سوى اغتيال الأشجار المحيطة بالبرج، لكن دون جدوى، فيترك كل شيء ويتفرغ إلى مطاردة هذه الطيور بشتى السبل، معتقدا أنها أصبحت تعشش في داخله، وروثها يتراكم كل يوم طامسا روحه وجسده. لا ينفصل هذا الجو عن قصة «سارق الونش»، بمسحتها السياسية الاجتماعية المثقلة برشاش من الكوميديا والسخرية، حيث يتم توظيف البطل من قبل السلطات، لتغطية وقائع السرقة القديمة، وذلك للتغطية على حادث سرق الهرم الأكبر، وهو حادث افتراضي بطبيعة الحال، ويمتثل البطل لذلك، متوهما أنه يعمل للصالح العام، وبينما هو يعلم من أجل مصلحته الخاص، حيث تتم ترقيته بمساعدة السلطات ليصبح رئيس تحرير إحدى الصحف، لكنه سرعان ما يطاح به، بعد أن أنجز المهمة المكلف بها. وأيضا قصة «اجابودو» بجوها الإسقاطي على واقع الإرهاب الذي تعاني منه البلاد، ويضرب الكثير من البلدان العربية، ويحولها إلى كابوس يومي دامٍ لا ينتهي. لقد اعتمد الكاتب في هذا القسم على لغة سردية شفيفة وواخزة، مرتكزا على فكرة تشبه برأيي «بكرة الخيط»، كمركز جامع للسرد، ومنصة انطلاق يتبلور منها نسيج القص، واستطاع بحيوية أن يتحكم في طريقة مد الخيط، وقطعه ووصله، وكيف يتركه في لحظات لينساب على عواهنه وسننه الطبيعية، معطيا المشهد رقته واسترخاءه الواقعيين، وكيف في أخرى يشده بقوة، منوعا لطشات الحوار وحركة الضمائر بحسب شكل الصراع ومواجهة الشخوص لمصائرها ومأزقها الإنساني المباغت دوما. يقول واصفا أحوال بطل قصة «الطيور»: «وهكذا، وبينما يرجع السيد الناجح لمنزله حدث ما لم يكن يتوقعه، فقد تحدته الطيور للمرة الثانية في أقل من أسبوع، وها هي ترسل إليه تحياتها الخاصة، لكن هذه المرة ليس فوق كتفه، ولكن لأنه كان متوجسا، فقد رفع رأسه للسماء، فإذا بالطيور تفعل فعلها الطبيعي، فوق وجه السيد المبجل، بالتحديد فوق نظارته التي لم يكن قد خلعها بعد». أيضا في هذا القسم يميل السرد أكثر لإيقاع السيناريو السينمائي، وتقطيع التفاصيل من داخل القماشة الأساسية نفسها، لتنويع الحركة، وجر تداعيات القص ومساراتها بنفسي سردي لاهث.. إمعانا في التشويق والإثارة، وكسر توقع القارئ، رغم الوقوع أحيانا في المبالغة، مما حد من قوة الإحساس بالفانتازيا، ودهشة الانفعال بها. في القسم الثاني من المجموعة المعنون باسم «جرافيتي»، يمهد له الكاتب بعبارة من سفر التكوين - الإصحاح السابع والعشرون، تقول «هو ذا بلا دسم الأرض يكون مسكنك.. بلا ندى السماء من فوق.. وبسيفك تعيش.. ولأخيك تستعيد.. ولكن يكون حينما تُجمع أنك تكسر نيره عن عنقك».. وهي عبارة دالة أيضا وتشكل مفتاحا قويا لمناخات وأجواء قصص هذا القسم، حيث تومض فيها مشاهد وذكريات من ثورة 25 يناير 2011، فكأن هذه التميمة الدينية بمثابة صلاة خفية أو أيقونة على أرواح شهداء هذه الثورة، التي تتناثر علامات وإشارات ومواقف ورؤى وأفكارا، تتقاطع في نسيج القصص، من حصار الخوف في قصة «تاكسي أبيض» لركابه الثلاثة، البطل والمرأة المنتقبة والسائق، في ساعة متأخرة من الليل، وبعدما أشيع عن حوادث الخطف والسرقة والقتل التي يتعرض سائقو التاكسي وركاب، فلم يبق من براءته سوى قشرة اللون الأبيض فقط، الذي اكتسبه في السنوات الأخيرة بديلا عن لونه الأسود السابق. ثم تتكثف أجواء الرعب في قصة «السفاح»، المريض نفسيا بالهوس الجنسي، الذي يتناسل في أقران جدد له، رغم إعلان السلطات عن القبض عليه. لا يبتعد هذا الجو بعبثيته المخيفة عن أجواء القصص الأخرى، خصوصا قصتي «جرافيتي» و«كونكور فايف». يبقى اللافت هنا أن القصص تقترب من الواقع أكثر، وتتخفف من حمولة الفانتازيا، ربما هذا نابع في تصوري من أن القصص نفسها تلعب على وتر وقائع ومشاهد حدثت بالفعل، لمسها الكاتب وعاشها عن قرب، كما يحكي في قصة «جرافيتي» على سبيل المثال، حيث لم يعد في حاجة إلى عباءة التقمص.. لكي يبحث في براءة الرعب عن معنى الرعب نفسه، أو يعيد النظر إلى ذاته في مرآة عالم، اختلطت فيه العتمة والنور.

مشاركة :