نجح الفنان إيفان كركلا في رهانه المشهدي الشامل، وقدم عرضاً يلتقي فيه المسرح بالرقص والموسيقى والغناء والجماليات البصرية، وهو العرض الذي أحيته «مؤسسة سمير قصير» في الذكرى العاشرة لاستشهاده وفي سياق مهرجان «ربيع بيروت» الذي بات مرتبطاً بكتاب «تاريخ بيروت» لقصير وبسيرته كصحافي ومثقف كبير. بدأ العرض الذي حمل عنوان «بيروت كانت وتكون» من نسج مخيلة كركلا الابن وذاكرته ووعيه الجمالي، فهو الذي طرح المقترحات البصرية وهو الذي سعى الى تنفيذها مستعيناً بفريق من ممثلين وراقصين ومغنين، إضافة الى فرقة بيروت السيمفونية التي قادها المايسترو هاروت فازليان. وقد استعان ايضاً بالموسيقي العالمي ريزا إليغولي الذي يعد واحداً من روافد فرقة كركلا في التأليف الموسيقي والتلحين. بدا أيفان اشبه بقائد فني، مهمته خلق المشاهد واللوحات وابتكار الجداريات الضوئية التي رافقت العرض بصفتها عنصراً كوريغرافياً وجماليا، وربطها بعضاً ببعض وفق ايقاع كلي تتناغم فيه الأبعاد المتعددة للعرض. ونجح كل النجاح في استقطاب اسماء فنية كبيرة وشابة ومنها الموسيقي رامي خليفة الذي قدم معزوفة بديعة ذات خط تصاعدي، والمغنية تانيا صالح التي غنت بالفرنسية اغنية طالعة من فترة الانتداب الفرنسي على لبنان، ثم نخبة من الممثلين المعروفين مثل رفعت طربيه وغبريال يمين وجهاد الأندري وإلكو داود وخالد السيد وسواهم. وبدا موفقاً في اختيار فيديو للفنان الشعبي جورج خباز يقدم فيه قصيدة بالعامية شبه ملحنة عن الطائفية في لبنان. اما لوحات الرقص، فانسابت في سياق العرض وكأنها واحد من تجلياته البصرية وهي رقصات مصممة لتؤدي وظيفتها الحركية والجمالية من كونها نابعة من صميم المعاني والدلالات التي يفيض بها العرض. وبدت واضحة لمسات الفنانة أليسار كركلا في عملها على اجساد الراقصين والراقصات وهندسة خطواتهم وانحناءاتهم وحركاتهم المشبعة ليونة ورشاقة في كل الألوان التي أدوها. ونظراً الى ان كركلا الابن شاء ان يقدم «رحلة فنية عبر الأزمنة» وهي رحلة في ذاكرة بيروت التاريخية، فهو قدم المراحل المتتالية عبر التقاليد والفنون التي تليق بكل مرحلة، سواء في الأزياء أو الرقص أو الموسيقى والفولكلور والغناء. وانفتح على البعد الشعبي لبيروت الأربعينات، لا سيما عبر المقهى البيروتي الذي كان ممكناً اختصار لوحتيه الأولى والثانية. وكم بدا جميلاً اختياره فرقة راب لبنانية تذكّر بتطوّر الفن في بيروت اليوم. وعبر استعادة تاريخ بيروت استعاد العرض بالصور والأسماء محطات فنية مهمة بعضها له علاقة ببيروت وبعضها الآخر له علاقة بلبنان. وكان غياب المطربة صباح لافتاً، لا سيما أغنيتها الجميلة التي تقول فيها «جينا نبيع كبوش التوت - ضيّعنا القلب ببيروت»، وكذلك الشاعر نزار قباني صاحب قصيدة «ست الدنيا»، والشاعر محمود درويش الذي كتب عن بيروت أجمل القصائد... ذُكرت أسماء ونسيت أسماء ووردت أسماء لا علاقة لها ببيروت. ولعل الغائب الأكبر عن العرض هو سمير قصير نفسه، علماً أن ثمة إشارة دلت على ان العرض مستوحى من كتاب سمير الشهير «تاريخ بيروت». وبدا الشاعر طلال حيدر الذي تولى كتابة النصوص كأنه لم يقرأ هذا الكتاب، وهو لو قرأه لأيقن ان بيروت التي تحدث عنها ليست بيروت سمير قصير بتاتاً. شاء حيدر الذي أغرقت نصوصه في الخطابية، أن يكتب نصاً مستوحى من «خيالات» سعيد عقل التي تمجّد وطناً لا وجود له. هكذا بدا نص طلال حيدر معاكساً لرؤية سمير قصير الى بيروت وتاريخها أو ضده. وكم كان فادحاً تغييب النص لثورة الأرز التي كان سمير أحد المشاركين في صنعها والتي استشهد في سبيلها. جرى الكلام عن الاحتلال العثماني والانتداب الفرنسي وعن حركات التحرّر والاستقلال، أما ثورة ساحة البرج فلم يأتِ حيدر على ذكرها. ولو كان لتمثال الشهداء الذي نجح كركلا في توظيفه سينوغرافيا داخل العرض ان ينطق، لأخبر عن ثورة الأرز التي كان شاهداً عليها.
مشاركة :