يمكنني القول بعد محاورتي الكاتب البريطاني فليب أرداغ إن القمر مضيء بوجهيه، فهذا هو الوصف الذي ينطبق على هذا الكاتب الذي لا يكتفي بإسعاد الأطفال، بل الكبار أيضا، فقد كان راقيا في تعامله معي إلى أبعد حد، وهذا ما توقعته من كاتب جذبتني سيرته الذاتية بما فيها من تميز، بعد أن قرأت أنه زار الإمارات في إطار مهرجان هاي أبوظبي فيستيفال، واحتك مباشرة بقراء جدد من ثقافة مغايرة لثقافته. فليب أرداغ كما قدمه موقع «فانتاستيك فيكشن» رجل طويل بلحية كثيفة لافتة للنظر، كتب أكثر من ستين كتابا للأطفال، تناول من خلالها موضوعات متنوعة، بين الطريف والعلمي، يعيش مع زوجته وقطتين في بلدة بريطانية ساحلية، متفرغا للكتابة بعد مرحلة ثرية من عمره مارس فيها مهنا مختلفة منها منظف مستشفى، مؤلف إعلانات، أمين مكتبة، وقارئ للمكفوفين.. في هذا الحوار، تجدون أجوبة مدهشة من كاتب فائق الروعة.. * لنتحدث أولا عن تحديد الفكرة المناسبة لعمر معين، كيف تفعل ذلك؟قد تدور الفكرة الجيّدة بقدر كبير حول طريقة سرّد القصة، بمعنى تطويرها كفكرة قائمة بحد ذاتها. إليكم مثالاً بسيطاً حول الطائرة الورقية المحلقة في الأجواء، والتي يمكننا تطويعها واتخاذها كركيزة ننطلق منها نحو مسارات قصصية مختلفة تتناسب مع مختلف أعمار الجمهور القارئ. فبالنسبة للصغار، يمكن أن تكون كتاباً مصوّراً حول رحلة طائرة ورقية تحلق في الهواء فوق منطقة ريفية ومدينة، أما بالنسبة لليافعين الأكبر سناً، فقد ينضم العديد من الأشخاص في مطاردة هذه الطائرة المحلقة فوقهم، بينما تمضي أحداث القصّة قدماً. غزارة إنتاجي تكمن في عشقي لما أقوم به عشت وحيداً مع «العالم الحالم» في رأسي لا أتابع كرة القدم رغم شغف البريطانيين بها أما الكبار، فقد تدور القصّة حول طفلة تطارد طائرتها الورقية الجامحة على قدميها، وأثناء ذلك تلتقي بأناس وتتسبب في إحداث بعض الأضرار بينما تواصل رحلتها. وبالانتقال إلى جمهور القراء من البالغين الأكبر سناً، فيمكن أن تكون الطائرة عبارة عن هدية مقدمة إلى فتاة من والدها الذي رحل عن عالمها، وعندما تتركها وتنفلت من بين يديها دون قصد تخالجها مشاعر حزينة تشابه شعورها بفقدان أبيها، فهي ترتبط بمشاعر حقيقية تجاه هذه الطائرة التي تركتها تحلق في الهواء، وإيجازاً، الأمر كله يكمن في طريقة سرد فكرة ما ورسم ملامحها، ومن ثمّ تحديد الفئة العمرية التي تخاطبها، وينبغي معالجة الفكرة جيداً، وينطبق ذلك على فكرة موت الأحباء التي قد تتلاءم مع كافة الأعمار باستثناء الأطفال الصغار. هل تعتقد أن الطفل في الخليج لا يختلف عن أطفال بريطانيا والسودان وشمال أفريقيا؟ بالطبع لا أتحدث عن جنسية الأطفال بقدر ما أتحدث عن خلفياتهم الثقافية والاجتماعية التي تؤسس لمستوى تلقي معين لهم؟ تكمن أحد أكبر أوجه الاختلافات عند تأليف القصص التي تناشد جمهور الأطفال، بخلاف جمهور القراء البالغين، في أسلوبنا الكتابي والتأليفي الذي دائماً ما يلامس وجدان القارئ البالغ ويضعه ضمن مواقف وأحداث هو على دراية بها بالفعل، إذ نطرح أمامه أفكاراً ورؤىً ممتعة ومختلفة ولكنها مألوفة لهم. أمام الأسلوب القصصي الذي يناشد جمهور الأطفال ويفرض على الكاتب والمؤلف ضرورة تقديم أفكار جديدة ورؤىً وأحاسيس غير معهودة بالنسبة لهم. وباعتبارك كاتباً فإنك لا تتوقع منهم نفس مستوى القدر من المعرفة والألفة تجاه هذه الأفكار والرؤى، وهذا يقودنا إلى فكرة أن الأطفال باختلاف خلفياتهم الثقافية بإمكانهم فهم وتقييم ما نقدمه لهم بينما تكشف القصّة عن فصولها وفكرتها تدريجياً، ولا نختلف على فكرة أن هناك فوارق ثقافية؛ ولكن هناك الكثير والكثير من أوجه التشابه بين الأطفال في جميع أنحاء العالم بما يفوق أوجه الاختلاف بينهم. ما الذي قد تضيفه القصة للطفل سواء كان سعيدا يملك كل شيء أو محاطا بأطلال حرب بكل فجائعها؟ تتم معالجة القصص عبر العديد من المستويات المختلفة، فبالنسبة للأطفال المقيمين في بيئة غير مواتية، سيأخذ الكتاب عقولهم على متن رحلة بعيدة إلى مكان مختلف تماماً، بما يمكنهم من قضاء ساعات في تجربة حياة جديدة واستكشاف أبعاد وعالم جديد ورؤيته بأعين الآخرين. وقد يعطيهم هذا الكتاب بصيصاً من الأمل، ويضع أقدامهم على حقيقة وجود حياة كريمة بانتظارهم في نهاية المطاف، أو قد يساعدهم في تصحيح فكرهم بتأكيد حقيقة أن غالبية البشر طيبون بالفطرة حتى في أحلك الأوقات هناك دائماً أناس جيدون حتى وإن لم يصطنعوا نفس القدر من الضجيج مثلما يفعل دعاة الحرب ومشعلو فتيلها. ولا أخفي سراً أن كتابة القصص والكتب الهزلية، التي ترسم البسمات والضحكات على وجه قارئيها، تُعد وسيلة ممتعة في حد ذاتها. فالكتب تفرج عن الكثير من المشاعر والأحاسيس في قلوب الأطفال، مثل السعادة والحزن والصدمة والمفاجأة، وهي حقاً تُعد بمثابة ذلك المفتاح الذي يضعهم أمام آفاق واسعة تشرق فكرهم وتنير عقولهم. ولكن هناك شيء خاص بشأن الكتابة الهزلية، فهي ترتبط بالقارئ ولا تفارقه إلا برسم البسمات والضحكات على وجهه. وتمتلك الكتب قدرة عجيبة على الولوج إلى عوالم مختلفة، لتلقي الضوء على مختلف أنواع الأشخاص وحيواتهم المغايرة، وهي بإمكانها أن توضح لمن ينعمون بحياة طيبة كيف يبدو الآخرون ممن يعيشون حياة أقل حظاً، ومن ثمّ تتركهم أمام حقيقة أن حياة كافة البشرية ذات قيمة متساوية. نتاجك الأدبي غزير جدا، في أصعب الفنون الأدبية حسب رأيي، أريد أن أعرف سر هذه الغزارة؟ يكمن السر في كوني عاشقاً لما أقوم به، فإنني أواصل هوايتي كمؤلف وناشر منذ قرابة ثلاثين عاماً وقد بدأت التأليف منذ أن تمكّنت أناملي من الكتابة. وإنني أجد نفسي محظوظاً للغاية، طوال هذه السنوات الماضية، فقد كنت واثقاً في شغفي وداعماً لعائلتي انطلاقاً من مهنة الكتابة والتأليف. وهناك الكثير من الكتّاب والمؤلفين الذي يمارسون مهنا أخرى بجانب الكتابة، ولكنني أقتات لقمة العيش من كتاباتي والفعاليات التي أشارك بها. وقد كنت أقضي سبعة أيام أسبوعياً في الكتابة، ولكنها باتت الآن خمسة أيام، لكي يتسنّى لي قضاء وقت وافٍ مع عائلتي خلال العطلة الأسبوعية. ولا شك أن ذلك قد وفر لي مزيداً من الوقت لقضائه في التأليف والكتابة خلال السنوات الماضية، الأمر الذي ساهم في تطوير مهاراتي كما شجعني على الدفع بحدودي الفكرية نحو آفاق جديدة وخوض مخاطر أكثر إبداعاً في مختلف الاتجاهات. ولا أنفي حقيقة أنني عملت كثيراً على تنمية مهارتي الكتابية في البدايات، ولكنني صقلت فكري وأطلقت له الجماح. ومثل أشياء كثيرة في الحياة عموماً، لعب الحظ دوره في دعم أشياء لست بارعاً فيها أو لم أكن على يقين كامل بها، تجنباً لأية مصادر تلهيني عن كتاباتي. هلّا حدّثتنا قليلاً عن طفولتك وهواياتك ومواقف طريفة حدثت معك وشخصيتك؟ وأي نوع من النتاج الأدبي والدرامي ترك بصمته على ذاكرتك؟ أنحدر من عائلة تهوى المطالعة، حيث شكّل الكتاب صديقاً دائماً لوالديّ، وكان منزلنا مليئاً بالكتب. أمّا أنا، فقد تعلّمت القراءة في سن مبكرة من والدتي، وكنّا غالباً ما نذهب إلى المكتبة العامة سويّةً. ولطالما كانت الكتب الهدية التي أطلبها في معظم الأعياد والاحتفالات. إّلا أن شغفي لم يقتصر على المطالعة فحسب، بل تخطاه إلى الكتابة أيضاً، حيث كتبت قصصاً قصيرةً على قصاصات من الورق وفي دفاتر صغيرة. وكنت أكتب وأرسم قصصاً مصورة بهدف التسلية، وغالباً ما استعملت ذات الشخصيات في أدوار مختلفة. أمّا الرياضة، فلم تشكّل أي مصدر اهتمام بالنسبة لي على الإطلاق. فعلى الرغم من الشغف الكبير للبريطانيين بكرة القدم، حيث يشجّع معظمهم فرقهم المفضّلة، إلّا أنني لم أتأثّر بهذه الموجة أبداً. فأنا لا أشاهد أي مباراة ولا أمارس هذه الرياضة، لأنها لا تهمني مطلقاً. ولكني أحب الريف البريطاني كثيراً، بما يحويه من مروج خضراء، وأنواع مختلفة من الأشجار والنباتات، والكثير من المدن والقرى والأبنية القديمة التي تعود إلى آلاف السنين. وإذا ما أردنا أن نتحدّث عن الطقس، فإن الجوّ في بريطانيا يمكن أن يكون رطباً وبارداً بنفس الوقت، لذلك نجد الشمس لديكم في غاية الروعة. يمكنني القول بالمجمل، إن القراءة والكتابة والتاريخ والعالم الطبيعي، بما في ذلك الحيوانات، كانت مصدر اهتمامي الأبرز طوال حياتي، وقد كان شقيقي الأكبر يمضي معظم أوقاته في ركوب الدراجة وتسلّق الأشجار والعزف على الجيتار مع أصدقائه. لذلك كنت وحيداً معظم الأحيان، أعيش مع أفكاري الخاصة والعالم الحالم في رأسي، بينما لقيت التشجيع والدعم الدائم من قبل والديّ. ما نصيحتك الأساسية التي تقدمها للكتاب الطموحين في أدب الأطفال؟ عليكم بالقراءة قدر الإمكان، وهي نصيحة يقدمها جميع الكتّاب، والشيء الوحيد الذي قد ينسون إخباركم به هو الكتابة! وأنا سأقدم 4 نصائح بسيطة يمكن أن تساعد الموهوبين في مسيرتهم: تخصيص وقت محدد للكتابة، قد يكون ذلك مرة واحدة في الأسبوع، أو لمدة 15 دقيقة يومياً، المهم أنه ينبغي تكريس فترة محددة والتمسّك بها كروتين دائم، فهذا وقتكم المخصّص للكتابة. إذا لم يخطر في بالكم موضوع محدّد للكتابة، يمكنكم أن تأخذوا فكرة بسيطة، وتطرحوا على أنفسكم سؤالاً: ماذا لو..؟ وهنا يمكنكم أن تفكروا بالاحتمالات. مثلاً: رجل يزور صديقه، ماذا لو لم يكن صديقه موجوداً؟ أو كان لديه ضيف؟ أو كان هذا الصديق مريضاً. وبمجرّد اختيار الفكرة التي تعجبكم، كأن يكون الصديق غير موجود عند زيارته، يمكننا أن نطرح المزيد من الأسئلة مثل: ماذا لو قال أحدهم إن الصديق خُطف؟ ماذا لو وجد الرجل ملاحظة على الباب من صديقه؟ ماذا لو كان هنالك نمرٌ داخل المنزل؟ وهكذا، وبهذا تنتقلون من حالة لا تعرفون فيها عن ماذا تكتبون إلى حالة مليئة بالاحتمالات التي تدور في أذهانكم. لا ترموا أي شيء، فإن كنتم تكتبون على جهاز حاسوب، فعليكم أن تحفظوا الملفّات وتنظّموها، وإن كنتم تكتبون على الورق، احتفظوا بهذه الأوراق في مجلّد خاص، فقد تعودون إلى قصة كتبتموها منذ سنوات، وربما تستفيدون من جملة واحدة أو فكرة ما فيها لتأليف قصة جديدة، وهذا ما حدث معي عدة مرّات.
مشاركة :