الحالة الأكثر شاعرية في حياة المرء – من وجهة نظري – هي تلك التي تُغادر فيها أقدامه أرض الوطن بينما تبقى روحه معلّقة في سمائه، فيصبح مستقبلًا لشمس الذكريات، ويمسي حالمًا بالحبيب الأصلي الذي لا يوازيه بديل ولا تفتديه أموال الغربة.قفزت هذه الفكرة إلى مخيلتي لسببين وددتُ في هذا المقال أن أربطهما سويًا بحبل الحب الوثيق نظرًا لمستويات التشابه اللامرئية التي تجمع بينهما، وقبل أن أتطرّق لتلك الأسباب أودّ أن أتمنى على كُتّاب الزوايا أن يضعوا في اعتبارهم أمرًا بسيطًا في كلّ مرّة ينهون بها نصًا أدبيًا أو صحفيًا، ألا وهو الإيمان بأنّ هذا المقال هو الأخير في حياتهم، وبذلك يحقنون فيه خلاصة شغفهم وصدقهم وأحاسيسهم، فيخرج بسلام من قلوبهم إلى ذوات قرائهم، وهذا بحرفيته ما أشعر به الآن.انتهى منذ أيامٍ قليلة عرض مسلسل (حدث في دمشق.. يا مال الشام) على إحدى القنوات الفضائية، وهي المرّة السابعة التي أشاهده بها نظرًا للاكتمال المنقطع النظير الذي يتمتع به من ناحية السيناريو والتمثيل والإخراج؛ حتى كاد أن يكون الأول – برأيي – محققًا بذلك الهدف الأساسي الذي من أجله خرجت كلمة (دراما) للمرة الأولى إلى الوجود، فالعاطفة الوطنية التي سُردت وسُبكت وطُرّزت عبر قصة (وداد) اليهودية السورية التي جسّدتها بتحليقٍ صادق الفنانة (سلاف فواخرجي) تجعلنا نتأكد من أنّ التاريخ يعيد نفسه دومًا في بلادنا. الغرباء يُحيكون الدسائس ولأوطاننا يحتلون، والشرفاء يدافعون عن ماء الوطن ووروده وشبابيكه وحاراته ودكاكينه حتى الثانية الأخيرة من رمق العمر، ويحملونه معهم أينما ما فرضت الظروف على سفنهم أن ترسي.أي كما حصل – على سبيل المثال وعلى سبيل التعليم – مع الموسيقية السورية (لينا شماميان) التي علّقت البلد في صوتها رسالةً وأملًا وسماءً تغطي بها بدفء كامل أجساد وأرواح كلّ من يطلبون هذه النوعية من الفنون على وجه التحديد، وأستشهد الآن بها لتزامن انتهاء (حدث في دمشق) مع استضافتها على قناة France 24 ضمن برنامج (ضيف ومسيرة) لتُذكّرنا مرة أخرى برواية المغترب السوري الذي قاسى ما قاساه من وحدة وغربة وخذلان وتطرف. مواجهةً إياها جميعها برسم الصورة السورية الحقيقية بالأوتار والنوتات والكلمات، وبقماشة الحبّ القادرة بفضل الإيمان وحده على تنظيف غبار العنف والتعصب وبقايا الحروب.من يتأمّلها بعين روحه كيف تتلّقف الزمن خوفًا من فقدان ثانية دون بثٍ حارقٍ لتجربتها المناسبة للاقتداء في زمن النفاق والتسلّق والغرور والمصالح والفساد يتأكّد أن بمقدوره تنفس الصعداء فخرًا بأنثى مستقلة لم تتعلم كلّ ما تعلّمته في يومٍ وليلة؛ بل بسهرٍ وجهدٍ ووقتٍ طويل كان كفيلًا أن يصقلها فتزداد حُبًّا مخطوطًا بعبارة: «تذكروا ألّا تخافوا.. ألّا تحزنوا.. فما بداخلكم أقوى من اليأس والعزلة والحرمان».على المقلب الآخر... أحتاج لقول كلمة حق شفافة يفرضها عليّ شرف مهنتي بحقّ فنانة اختارت التمسك بالوطن الأم، وبالأمّ الوطن بكافّة جوارحها وتصرفاتها، فعلى مدى تسعٍ عجاف لم تخضع لمغريات المال ودغدغة الشهرة، ولم تنحني حتى لشغفها الأوحد المتمثل بالإبداع التمثيلي عندما تَعارض ذلك مع قيمها وتفضيلاتها كابنة وأم وسليلة عائلة سورية حتى النخاع. إن صورة (وداد) في المسلسل تشابه (سلاف) بدرجة كبيرة حتى يكاد العارف لها لا يُفرّق بينهما، لا سيما عندما يتعلّق الأمر بالوفاء للصداقة والتراب والجوري، ومن الطبيعي بمكان أن أسلّط الضوء مرارًا وتكرارًا على أعمالها الخالدة كالغرسة الطيبة. جذرها في الأرض وفرعها في السماء.من تجعلنا نبكي سوريا بحرقة المحتاج، ومن تجعلنا نطفو في بحرٍ إبداع لا يُغرِق ستدفعنا حتمًا أن نعيد مشاهدة أعمالها الدرامية والسينمائية عمرًا بحاله حتى تصحو شركات الإنتاج من سباتها التجاري، وتُنهي العديد من المهازل التي ما برحت تستخّف بعقل المُشاهد على حساب أعمالٍ قيمة ومؤثرة وتشبهنا برمّتنا. اعلموا بأنني سأعلّق لوحاتها على جدار روحي من الآن وحتى اليقظة المنتظرة؛ فأوسّع حينها مساحة الجدار مضيفةً لوحةً جديدة موقعّة بأداء ابنة الابتسامة.سلاف ولينا نموذجان يجعلان مني شخصًا لا يطيق صبر العيش بعيدًا عن دمشق، وعن المشي بـ(زواريبها) ومشاركة أهلها هموم الأسى والفقر والمرض والحرمان، قبل الآمال بأحلامٍ متحققة وأغانٍ مؤجلة وقصص تعكس واقع شعبٍ حيّ رغم الموت، طالما ما زال يُنهِضُ أمام أعيننا شجار طيبة تستحق أن تحمل أسمائهما لأنهما – على وجه التخصيص لا الحصر – سَقَياها بالتضحيات والانتماء والعمل الجاد والفداء. إحداهما غريبة في وطن، والأخرى وطنية في الغربة. الأولى صنعت مالا يستطيع فعله النجوم الكبار لسنوات طوال، فاستحقّت التكريم والامتنان، والثانية مستمرة في رحلة سعي مهجري لا منتهية.أعتذرُ سلفًا إن أخطأتُ في حرفٍ ممّا سلف؛ ولكنّ كلّ هدفي هو تذكير الجميع بأنّ من اختارت الوطن حينما عزّ الخيار سيصحّ خيارها ولو بعد حين، ومن أرّخت لغربتها بالشوق والحنين لا مجال للمزاودة على أصلهما الكريم. كلتاهما كتبتا حتمًا قصيدة الوطن في ديوان الكون. وما بين خشبة المسرح والشاشتين الصغيرة والكبيرة رسائل إن قرأناها لن نغادر الحياة إلّا برفقة صندوق موزاييكي مُعبّأ بالياسمين.
مشاركة :