الصدى الإيجابي الذي ناله معالي الأخ ماجد القصبي باختيار القيادة الرشيدة له لحقيبة الإعلام لم يأتِ من فراغ؛ فالمهام التي أوكلت إليه، ونجح فيها، ستكون لتجربته فيها قيمة مضافة في مجال الإعلام. لقد بدا لعدد من المراقبين لأداء وزارة الإعلام أن مشكلة الإعلام السعودي أنه (منظومة) راكدة بطيئة الحركة، وحبيسة مصاعب مقيدة لها: حركة وإبداعًا، وأنها أمام منظومة عصية على مواكبة مستجدات العصر ومقتضيات المرحلة التي تمرُّ بها المملكة، فضلاً عن عدم استطاعتها تحقيق طموحات القيادة وتطلعات الرأي العام ونخب المجتمع، وخصوصًا في ظل الرؤية (2030) للمملكة، وما تتطلبه من استحقاقات تجديد هيكلية في الإدارة والاقتصاد والمجتمع. بداية، لا بد من نظرة فاحصة ناقدة لهيكلية الإعلام ذاته؛ فجهاز الإعلام السعودي ما زال قطاعًا حكوميًّا بيروقراطيًّا بامتياز، يُدار مثل غيره عبر دولاب الحكومة الكبير. ورغم كل التحديثات التي مرَّ بها الإعلام السعودي خلال السنوات الماضية، عندما تحولت بعض مكوناته إلى هيئات، مثل هيئة الإذاعة والتلفزيون، ووكالة الأنباء، وهيئة المسموع والمرئي... إلخ، كذلك في ضم وفصل قطاع الثقافة عن وزارة الإعلام، إلا أنه مع ذلك لم يتغير شيء كثير في الأداء المنتظر منه بدليل النقد المتواصل لأداء الإعلام السعودي من حيث تواضعه داخليًّا، وضعفه خارجيًّا؛ والسبب الأساسي يكمن في أنه ما زال يُدار (بعقلية حكومية رسمية صرفة)؛ إذ يخضع لرقابة مالية وإدارية خانقه لانطلاقه بما يخدم المرحلة، وما ترتب على ذلك من قتل للإبداعات والطموحات، وضعف المكافآت والمرتبات، وغيرها من الحوافز الجاذبة والضرورية في أي بيئة إعلامية نشطة؛ الأمر الذي أدى إلى نفور الكفاءات الإعلامية عنه رغم قلتهم، وجعلهم يهاجرون إلى الإعلام الخارجي أو التجاري.. والشواهد أوضح من الحاجة إلى دليل. فيكفي أن تتنقل بين المحطات لتجد الوجوه والكفاءات السعودية هنا وهناك، رجالاً ونساء، تملأ الشاشات الفضية، سواء بإبداعات ترفيهية، أو جادة، أو خبرية وتحليلية، مثل (العربية، الخليجية، مجموعة إم بي سي، وسكاي نيوز عربية.. إلخ) وغيرها كثير. وعليه، تراكم على قطاع الإعلام الحالي: أسلوب الإدارة، وطريقة الإنفاق والرقابة المالية، وكأنه دائرة حكومية عادية، مع القيد البيروقراطي الإداري العتيق عليه. أضف إلى ذلك ضعف الحوافز، وتخشب الخطاب الإعلامي الذي لا يخدم المرحلة. إذن، لا غرابة أن يتدنى مستوى أداء الإعلام السعودي، ويكون موضع انتقاد مستمر من القيادة والرأي العام، فضلاً عن ضعف فعاليته كأداة مهمة في يد الحكومة لخدمة المصالح العليا للمملكة وسياستها في الداخل، وغيابه كرافعة كبرى للقوة الناعمة للسياسة السعودية ودبلوماسيتها في الخارج واقتصادها القوي، وخصوصًا في هذه الأيام وللمرحلة القادمة. وهذا سر تعاقُب الوزراء على الوزارة أملاً في تحسين الأداء والفعالية والمنافسة، ولكن دون اختلاف يُذكر سوى في المسميات والإجراءات الشكلية والتجميلية؛ لأن القيود الإدارية والمالية والاستثمارية على هذا القطاع بقيت تضرب أطنابها فيه. فنحن - فعلاً - أمام إعلام متواضع، يتسم بخطاب عادي، لا يليق بدولة بحجم المملكة ومكانتها السياسية والاقتصادية والروحية، ولا بحجم التحديات التي تواجهها، ولا الطموحات التي تنشدها، والرؤى التي تعتزم تحقيقها. يكفي أننا لا نستطيع أن نورد أمثلة كثيرة نجح فيها الإعلام الرسمي التقليدي للدول في القدرة على مواكبة الحدث، ودعم القرار السياسي بحرفنة ومبادرة سريعة، فضلاً عن استباق مخطط ذكي للتعامل مع الحدث المرتقب داخليًّا أو خارجيًّا. من هنا، فإن أي خطوة جذرية لإصلاح الإعلام السعودي وانتشاله وتطويره ينبغي أن تبدأ من هذه المسلَّمات، والاعتراف بالخلل الهيكلي الذي يعتريه، والتسليم بأن الوقت قد تغيَّر في ظل السماء المفتوحة، والعصر الرقمي، والإعلام الأهلي والتجاري، وسطوة ما يسمي بـ(سوشيال ميديا). وعلينا التسليم بأن الإعلام الرسمي كما نعرفه منذ الستينيات قد ولَّى إلى غير رجعة، وأصبح الآن صناعة متطورة، وقوة ناعمة، لا يستهان بأثرها وبتأثيرها داخليًّا، ودورها خارجيًّا.. الإعلام العصري المؤثر يتطلب سرعة في الحركة، ومرونة مالية وإدارية واسعة، وإنفاقًا ضخمًا، وذكاء في الإدارة، واستقطابًا للكفاءات الإعلامية المتميزة، وبمرجعية إصلاحية، أساسها ومرتكزها في بلادنا رؤية المملكة الجديدة التي يقودها سمو الأمير الشاب محمد بن سلمان ولي العهد -حفظه الله- باقتدار؛ لكي يكون الإعلام بوسائله وأدواته كافة أحد الأركان الرئيسة لدعم هذه الرؤية وتسويقها وإنجاحها في الداخل والخارج.. فضلاً عن أدوار أخرى تتطلبها المرحلة. ولا داعي لاختراع العجلة؛ فالخطوة الأولى تبدأ بالتعرف على أفضل الممارسات العالمية الإعلامية في دول نجح إعلامها في قيادة الرأي العام الداخلي، وساند سياساتها الداخلية والإقليمية والدولية في جميع المحافل بذكاء وحرفنة، وتحوَّل إلى أداة مؤثرة للاستفادة منها في المنافحة في القضايا المصيرية، مثل قضايانا الحالية: (عاصفة الحزم وإعادة الأمل، وإيران، والحوثي، وترشيد الإنفاق الداخلي، وترسيخ المواطنة، ومكافحة الإرهاب، ومكافحة الإسلام السياسي والإخواني، والتطرف، والتحولات الاقتصادية.. وغيرها من القضايا الملحة التي فرضت نفسها على الساحة). وهناك أمثلة لأجهزة إعلامية دولية ناجحة، يمكن تطويعها، وليس اقتباسها كما هي؛ لتلائم ظروف المملكة وخصوصياتها. فقد نجح الإعلام التجاري، أو شبه الحكومي المرن في بعض الدول المجاورة (مثل سكاي نيوز)، وهناك أيضًا التجربتان الفرنسية والروسية. كما لا يغيب عن بالنا التجربة البريطانية عبر هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) التي أرى أنها أنضج التجارب الإعلامية الناجحة عالميًّا، والأقرب لإمكانية الاستفادة من بعض جوانبها لتطوير الإعلام السعودي؛ فهي مدعومة ماليًّا من الحكومة البريطانية، ويشرف عليها (مجلس أمناء) بوصاية محدودة، ولكنها أشبه ما تكون بشركة، وتُدار بعقلية تجارية مهنية، ونجحت عبر عشرات السنين في خدمة المصالح البريطانية في الداخل والخارج، من حيث انتشار محطاتها: إذاعة وتلفزة ومراسلين عبر القارات، وبجميع لغات العالم، وتنتج الأفلام والمسرحيات والوثائقيات، والخبر والتحليل الرصين، والثقافة وغيرها.. فهي صناعة إعلامية متكاملة، بل تدر دخلاً على المؤسسة الإعلامية هناك، ونسبة المشاهدة والاستماع لها من أعلى النسب في العالم؛ فمَن منا لم يستمع لإذاعة لندن (هنا لندن)؟ ومَن منا لم يتأثر ببعض آرائها؟! أما الإعلام الأمريكي المسيطر عالميًّا فهو تجاري بحت، كما هو معلوم، خبرًا وترفيها، وأسهُم شركاته تُدار في سوق المال بربحية عالية، وتأثير قوي على الرأي العام. لذا، فإن المقترح الأكثر طموحًا لتطوير الإعلام السعودي الحكومي هو (تحويله إلى شركة حكومية إعلامية عملاقة)، باسم: مؤسسة الإعلام السعودي، أو المؤسسة الوطنية للإعلام، أو المؤسسة العامة للإعلام، أو مشتقات من هذه الأسماء، وتنبثق منها شركات يملكها صندوق الاستثمارات العامة، ويدار فيها الإعلام بشكل عصري احترافي تجاري مرن، أسوة بإدارة الشركات الكبرى، حوكمة وشفافية، مع مراعاة طبيعة النشاط الإعلامي وضرورات خدمة مصالح الدولة في الداخل والخارج، ورقابتها عليه، مع فصل الإدارة عن الملكية، وبعيدًا عن القيد الإداري والمالي الحكومي، يصاحبه هامش مناسب من حرية الحركة الإعلامية التعبيرية في الجهاز، ويتشكل لها مجلس أمناء من المتخصصين في الأنشطة ذات الصلة للإشراف عليها، ورسم سياستها الإعلامية والاستثمارية، وتؤول لهذه الشركة، أو المؤسسة، جميع أصول وزارة الإعلام الحالية من مبانٍ وأراضٍ وموظفين، وتكون الميزانية السنوية المخصصة لها من الدولة بمنزلة إعانة سنوية من الحكومة ولو إلى حين، ويتشكل - بداية - لها لجنة تأسيسية من المتخصصين؛ لتقود جهد التحول الهيكلي المطلوب، ويُعيَّن (وزير دولة وعضو مجلس الوزراء للشؤون الإعلامية)، يكون رئيسًا لهذه اللجنة التأسيسية، ثم يكون هذا الوزير رئيسًا لمجلس الأمناء عند تشكيله، وليكون - أيضًا - صوتًا لقطاع الإعلام في مطبخ الحكومة، أي مجلس الوزراء، ومن أجل استمرار إشراف الدولة ورقابتها على قطاع الإعلام، والتأكد من سلامة مساره وعدم انفلاته عن المسار المرسوم له. هذه الرؤية الأولية المقترحة لعصرنة الإعلام السعودي، وبعد إنضاجها من متخصصين من مختلف التخصصات ذات الصلة، لربما تكون هي الوصفة العاجلة للنهوض بمرفق الإعلام؛ لتواكب رؤية المملكة الطموحة (2030)، وليكون الإعلام السعودي بعد تحوله في هذا الاتجاه أداة فعالة للإقناع والقبول بسياسات الدولة في الداخل، والتأثير السياسي والدبلوماسي الناعم في الخارج. صفوة القول: إن ضعف إعلامنا، خارجيًّا وداخليًّا، انكشف بوضوح منذ حرب الخليج، والأحداث المتسارعة التي عمت منطقتنا. وإن هذا الوضع يتطلب معالجة جذرية، ومتابعة لصيقة، تعكس الأحداث، وتنقل الرسالة الإعلامية بصورة احترافية لفائدة الوطن والمواطن. حان الوقت الآن لكي يكون علاج أوجاع الإعلام السعودي بمبضع جراح ماهر، بالتفكير خارج الصندوق. والأمل معقود في معالي الوزير الجديد لإحداث هذه النقلة النوعية التي نتطلع إليها جميعًا.
مشاركة :