دخلت العازفة البلجيكية إليزابيث دبرون مجال الموسيقى منذ أن كان عمرها 5 سنوات، حيث اكتشفت بأصابعها أوتار الحياة، وتعلّمت أن الألحان تُعزف بالمشاعر ليستطيع الناس سماعها بقلوبهم قبل آذانهم، فتملكتها وآمنت بقدراتها السحرية حتى إنها وظفتها في تأهيل أطفال شردتهم الحروب، وحازت بسببها جوائز عالمية. عن علاقتها بالموسيقى وكيف بدأت، قالت: «الموسيقى لغة ممزوجة بالعواطف، وتوفّر لي مساحة من الحرية أستطيع فيها أن أقول كل ما أريد من دون أن أضطر للخوف أو الاختباء. إنها ببساطة ملجأي الأكثر أماناً على هذه الأرض، فعندما أعزف أشعر بالاطمئنان، وأسافر في عوالم باهرة يتداخل فيها الواقع مع الخيال». وأضافت: «أمي دعمتني لتعلّم هذه اللغة السحرية. وأعترف أنه لولا دعمها لي في صعود السلم الموسيقي درجة تلو الأخرى، لما استطعت أن أحقّق حلمي، وأكون المرأة الموسيقية التي أنا عليها اليوم، لقد جعلتني منذ أن كنت صغيرة أكتشف جمالية التعبير بالموسيقى، ورقي الحياة مع الألحان». ولم تنسَ دبرون كيف ألهمها مدرّسوها طيلة السنوات المتلاحقة في اختبار قدراتها على العزف وتطويع الأوتار لتحكي قصة ما، ولتعبّر عن نفسها بجرأة وحساسية عاليتين. بالنسبة لها هم لم يكونوا أساتذة فقط، بل مرشدين حقيقيين جعلوها تفهم نفسها وتعرف ما تريد في هذه الحياة. دافع إنساني بدافع إنساني ذهبت دبرون إلى فلسطين في العام 2009، راغبة في مد يد العون للأطفال هناك، وتدريسهم الموسيقى لتخفيف وطأة الضغوطات عليهم، وقتها لم تكن تعرف الكثير عن هذا البلد، لكن وما إن انقضت الأيام الأولى حتى وجدت نفسها مغرمة بالمناظر الطبيعية المتناثرة أمامها، وبالشعب الذي يفيض دفئاً ومحبة. وبعد تدريسها الموسيقى في مدارس ابتدائية إلى جانب معهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى، تعرفت على الموسيقي رمضان خطاب الذي أصبح زوجها فيما بعد، وهكذا تحوّلت فلسطين إلى حياة متكاملة بالنسبة لها، خاصةً وأنها أتقنت اللغة العربية، ما جعلها تستقر فيها حتى صيف العام 2016. مفارقة كبرى وعن المفارقة الكبرى التي حدثت معها هناك، قالت: «في فلسطين البلد الجميل الذي تحوّل بفعل الاحتلال إلى سجن كبير، إلا أنني وجدت حريتي في الحب والموسيقى». وأضافت: «لقد غيّرتني فلسطين مثلما لم يغيّرني أحد، جعلتني نسخة أفضل من نفسي. عشت فيها تجارب وقصصا عميقة. وعلّمتني دروسا لن أتعلّمها في مكانٍ آخر. فعلى تلك الأرض الساحرة، كل شيء قد يتغيّر أو ينقلب بلمح البصر طالما أنك تعيش تحت الاحتلال، لذا وكما يفعل شعبها صرت أقاوم الخوف بالمحبة والأمل، وأرفض اليأس بفعل الأمور البسيطة التي تجلب المتعة والسعادة. إنهم شعب عظيم، لم تمنعهم المعاناة من الرغبة بالحياة، وبالرغم من كل مصائبهم تراهم قادرين على العطاء والحب». ولا تزال دبرون تذكر قصة ذلك الطفل من غزة الذي انضمّ إليهم في مخيم للموسيقى في رام الله. قالت «لقد همس بأذنها ذات مرة أنه المحظوظ الوحيد في عائلته لأنه استطاع أن يرى القدس، كونه يعزف الكمان، وبالتالي سنحت له الفرصة للمجيء إلى المخيم». وهنا علّقت: «إذاً.. للموسيقى قدرات خارقة.. إنها تتجاوز الجدران». تدريس نوعي تدرّس دبرون الموسيقى للأطفال، لكنه تدريس تفاعلي وغير تقليدي، تتبع فيه أساليب متنوعة من جميع أنواع الفنون، حيث الاعتماد على تمارين الأداء والألعاب التعليمية التي تقوّي شخصية الطفل، توسّع آفاقه وتكسر حواجز الخوف والرهبة لديه، بالإضافة إلى أنها تسهم في إذابة الجليد بينه وبين محيطه. واليوم هي تعيش في بلجيكا، وتتعامل بشكل يومي مع الأطفال اللاجئين السوريين الذين جاؤوا مع أهاليهم بحثاً عن ملاذ آمن بعيداً عن الحروب. ويشكّل هذا العمل بالنسبة لها رسالة إنسانية سامية تسعى من خلاله لأن يتعلّم هؤلاء الأطفال الموسيقى لمساعدتهم في تجاوز الويلات التي شاهدوها، وفي تخطّي المصاعب الحالية التي تواجهها عائلاتهم في الأوطان الجديدة، بالإضافة إلى أنها تسهم في تسريع اندماجهم في المجتمع، وفي تكوين صداقات وحوارات مشتركة مع الأطفال الآخرين مهما اختلفت جنسياتهم. سر التوازن وبين هذه المهام التي تتطلّب الجهد والوقت، بالإضافة إلى أن العمل في الموسيقى يستلزم الكثير من التفرّغ النفسي، لا بدّ من خطة يومية تنتهجها دبرون لتنجز مهامها كافة، وهي لخّصتها بكلمة واحدة «السعادة»، إذ قالت: «مثل كل النساء، يبدو التوازن بين العمل والبيت والأطفال صعباً جداً، لكن السعادة هي وصفتي السحرية التي تجعلني أنجز كل شيء، فأنا أحاول أن كون سعيدة، بينما أقوم بأعمال المنزل ورعاية ابنتيّ والاهتمام بتفاصيلهما، وحتى وأنا في العمل أكون سعيدة، الأمر الذي يسهّل القيام بالمهام. كذلك لا أنسى أبداً أن زوجي شريك حقيقي وداعم كبير داخل المنزل وخارجه، فضلاً عن أنه والطفلتين يفهمون حياتي، ويحتملون العيش في منزل فوضوي أحياناً». وأكّدت: «من الرائع أن نتشارك أنا وزوجي المهنة والأحلام ذاتها. فنحن نعمل كفريق من أجل قضية واحدة تتمحور حول تعليم الموسيقى للأطفال»، موضحة «أنا وزوجي شخصان مختلفان جداً في طباعنا، وهذا ضروري حتى نتمكّن من إكمال بعضنا بعضاً، وبالتالي نحن ننجز كل أمور الحياة بطريقة رائعة». توريث الشغف مثلما تعيش العازفة البلجيكية إليزابيث دبرون نعمة الموسيقى، تريد لابنتيها أن تعيشاها أيضاً، خاصةً وأنها تدرك أن الموسيقى هي الفن الذي يتيح لمناطق الدماغ كلها العمل في آنٍ واحد، وبالتالي تحفّز القدرات الإبداعية والمعرفية لدى الإنسان منذ صغره. فابنتاها تواظبان على سماع الموسيقى وممارستها يومياً، معتبرة أنه حتى لو لم تختاراها مهنة في المستقبل، من الضروري أن تتقناها من أجل التفريغ النفسي والاستمتاع. حصيلة ثرية درست إليزابيث دبرون في الكلية الملكية للموسيقى في لندن، ثم نالت «الماجستير» في العزف على الكمان من بروكسل. واكتسبت خبرة واسعة من عروض منفردة وجماعية قدمتها على مسارح عالمية، وفي رصيدها جوائز منها حصولها في العام 2005 على المركز الأول في مسابقة «كينجستون أبون ذامس»، ضمن مهرجان The Kingston-upon-Thames Festival of The Performing Arts، الذي تأسس في العام 1932 في بريطانيا. كما حازت الجائزة الأولى في مسابقة «ريتشموند» في العام 2007، لتشجيع الموسيقيين الشباب في الولايات المتحدة. مساحة تعبير تملك إليزابيث دبرون نتاجات «رائعة» في مجال الرسم، إلا أنها تعتبره مجرد شغف خاص، مؤكدة: «أرسم لوحاتي بهدف الاستمتاع بالفن، ولقد ساعدتني في تخفيف الضغوط النفسية التي واجهتني، وفي التعبير عن مشاعري».
مشاركة :