طوال مئات السنين، كانت دول العالم تعيش فى إطار قواعد ما سمي بالنظام الدولي world Order، منذ إقرار معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أرست قواعد متفقاً عليها، توفر ضماناً لحماية النظام الدولي. وعلى الرغم من أي صراعات تشتعل بين الدول وبعضها، أو أي تطورات في منظومة العلاقات الدولية، والتحولات بين الدول وبعضها من التحالفات إلى العداوات، والعكس، فقد بقيت المفاهيم التقليدية لضمان النظام الدولي، مستندة إلى: سيادة الدولة على أرضها، وعدم تدخل أي دولة في الشؤون الداخلية لغيرها. وكان مبدأ توازن القوى الذي كان حاكماً للسياسات الخارجية للقوى الكبرى، يعد قيداً رادعاً لأي قوة تحاول كسر هذه القواعد، وفي إطار الصراع العالمي. وهو ما كان ظاهراً بوضوح في سنوات الحرب الباردة، وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، فإن الصراع على مناطق النفوذ، وما صحبه من إشعال حروب إقليمية ومحلية، تقدم فيها كل قوة كبرى، السلاح والدعم والتحريض، لطرف من طرفي هذه الحروب الإقليمية، كانت هناك حدود للخصومة، وحرص على عدم دفع الأزمات المسلحة، إلى أبعد من حافة الهاوية، والحيلولة دون الانزلاق إلى الهاوية، حرصا من الجميع على النظام الدولي، الذي اعتبروا بقاءه لصالحهم معاً. ومن بعد انتهاء الحرب الباردة، لحقت بالنظام الدولي تطورات متدرجة. فإن قوى إقليمية، تمتد نظرتها لمصالحها إلى أبعد من حدودها كدولة، وجدت أن إعادة تقييم القوى الكبرى لأولويات سياساتها الإقليمية، وبحثها عن استراتيجيات جديدة، تحافظ على مصالحها في مناطق نفوذها التقليدية خاصة في الشرق الأوسط، يتيح لهذه القوى: إيران - وتركيا - وإسرائيل، فرصا سانحة للتمدد خارج حدودها، خاصة في العالم العربي. ويغريها على ذلك عدم وجود استراتيجية أمن قومي عربية، تملأ فراغ مجالها الحيوي، وتصد زحف القوى الخارجية عليه، خاصة أن هذه القوى لديها استراتيجيات معدة مسبقاً، لهذا الزحف، حين تجد أن الفرصة سانحة لذلك. بالإضافة إلى أن كل واحدة من هذه القوى الإقليمية، محكومة بأفكار أيديولوجية، لا تعبأ بما فيه مصلحة النظام الدولي. فإيران لا تكف من وقت لآخر، عن ترديد سعيها لاستعادة الإمبراطورية الفارسية، وتركيا ظهر عليها بقوة، في عهد أردوغان، حلم الإمبراطورية العثمانية، برداء عصري - أما إسرائيل فلا تزال مستغرقة في حلم أن تكون هي القوة الكبرى المسيطرة في الشرق الأوسط. في أجواء هذه التطورات، ونتيجة للأعباء الثقيلة للحروب المكلفة للولايات المتحدة والغرب، في أفغانستان والعراق، وما ترتب على ذلك من مشكلات مالية واقتصادية، فإنها أصبحت تفضل التركيز أكثر على همومها الداخلية، ومحاولة الاعتماد في الخارج على وكلاء محليين، ممن يحافظون لها على مصالحها وأهدافها. في ظل هذه التطورات كانت الأحداث الداخلية في سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، قد فتحت ثغرات في جدار النظام الإقليمي، لكي تتسلل منه منظمات الإرهاب، التي استطاعت - من خلال تعاونها مع بعضها بعضاً - وقدرتها على حشد ترسانات السلاح، والتمويل الكبير، أن توسع هذه الثغرات، لتصبح أبوابا مفتوحة، لتهديد المنطقة ككل. كانت الولايات المتحدة والغرب، طبقاً لاستراتيجيتها العالمية، وبعد تكشف خطط استخدامها للوكلاء، وانتفاضة المصريين في 30 يونيو/حزيران 2013 لإسقاط هذه الخطط، مشغولة بمجريات دولية أخرى، على رأسها صعود الصين في آسيا، وعودة روسيا لتحدي سياسات أمريكا والغرب. وأصبح النظام الدولي، الذي كان صمام أمان للدول والشعوب بشكل عام، يواجه هجمة من جماعات لا تؤمن أصلاً بفكرة النظام الدولي، وتضع على رأس أولوياتها، هدمه تماماً. وهو ما يعني إغراق العالم في بحور متلاطمة الأمواج، من الفوضى التدميرية، والدموية، بما يهدد بإرجاع العالم إلى ما قبل عصر الدولة، حين كانت الجماعات البشرية، تعيش عصور البدائية الهمجية. وللأسف، فإن القوى الإقليمية الطامحة في مد نفوذها خارج حدودها إلى أرض العرب، تستغل هذه الموجة الإرهابية لصالحها. وهو ما أكدته مراكز دراسات لها وزنها في الغرب. إن هذه الهجمة الهمجية على النظام الدولي، لم تعد تخص الدول الإقليمية في منطقتنا، ولكنها تؤثر سلباً في العالم كله، الذي بقي لمئات السنين يعيش عصراً، عرف بالنظام الدولي.
مشاركة :