ننشر مقدمة سليمان العطار لرواية مائة عام من العزلة

  • 3/14/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

رحل عن عالمنا صباح اليوم الجمعة الدكتور سليمان العطار، صاحب ترجمة رواية مائة عام من العزلة للروائي الكولومبي جبريال جارثيا ماركيز، وكتب "العطار" مقدمة لترجمته العربية المباشرة للرواية عن الإسبانية يقول خلالها:"لقد قمت بترجمة هذا العمل الروائي الفذ منذ سنوات طويلة "1979 - 1980"، وأذكر كيف أسرتني هذه الرواية بشكل فريد، إذ لم يحدث لي أن شعرت بهذه المشاعر المكثفة والتي تضيء بداخلي إلى حد الإحساس باحتراق كثير من الأعمال القصصية والشعرية السابقة عليها مثل زيت يمد تلك المشاعر بالوقود لتزداد كثافة و"انضياء". دفعني هذا لدراسة الرواية بعد الانتهاء من ترجمتها، وقد أستغرق ذلك مني وقتًا لا يقل عن الزمن الذي احتجته للقيام بالترجمة: أكثر من عام! لم يكتب لهذه الدراسة حفظ من النشر كما كتب للرواية التي بقيت في دار النشر أكثر من عام في انتظار دورها، وعندما حان موعد النشر لم تنشر لأن أحد عمال الطباعة أفزعته انتظار بعض العبارات فتوقف ليعرض الأمر على رؤسائه، ويظل الأمر محل الأخذ والرد حتى بلغني – وقد كنت سافرت في مهمة رسمية طويلة إلى سانتياجو تشيلي – أنه قد تم نشر الرواية المترجمة كتكريم لمؤلفها اللامع لحصوله على جائزة نوبل، نشرت الترجمة بسرعة وفي حالة عدم وجودي فانتشرت بصفحاتها الأخطاء والجمل الساقطة، ومع ذلك لقيت الترجمة نجاحًا منقطع النظير، باختصار لأن العمل فذ وغير مسبوق بين كتاب العالم الثالث، ثم إنه من أهم الأعمال الروائية – الأن – على مستوى العالم، وعلى مدي تاريخ الرواية الذي ينحدر في الزمان الفائت إلى أعوام تكاد تغلق باب القرن الرابع المنقضي منذ ميلاد هذا النوع الأدبي. ثم أخيرًا لأني مترجم انتقلت إلى من الرواية آفة الإبداع.مؤلف هذه الرواية " جابرييل غارثيا ماركيز "ينتمي إلى جمهورية كولومبيا الواقعة في أكثر مناطق الامريكيتين غرقًا في مستنقعات الطبيعة "والحروب والسياسة والفساد والفقر وانتهاب الثروات وممارسة الأسطورة" إمعانًا في الاستنقاع. عندما نُشرت هذه الرواية في عام 1967 وزعت مائة ألف نسخة في عامها الأول في أمريكا الجنوبية: رقم لم يبلغه عمل روائي هناك من قبل. كانت ترجمة هذه الروية إلى العربية أخر ترجماتها اللانهائية – تقريبًا – لكل اللغات الحية التي يضج كوكبنا اليوم بالمتحدثين بها، واليوم وأنا أقدم هذه الطبعة الجديدة فكرت في التقديم لها بتلك الدراسة التي أشرت إليها منذ قليل، ولكن الدراسات مرسومة بلغة مائة عام من العزلة التي أصيبت بها أسرة "بودين ديا" التي تؤرخ لها الرواية.لقد أدركت أن التقديم الأكاديمي للأعمال العظيمة يفسدها وبشكل عدوانيًا حقيقًا، على قارئها، لأن التقديم بمثل هذه الدراسة المعمقة لمثل هذا العمل الفريد يفرض على القارئ طريقة واحدية الوجه لقراءة عمل له ألف طريقة لكل منها ألف وجه للقراءة، أولًا العمل ثم الدراسة، فهل تنشر الرواية مُذيّلة بالدراسة؟ الإجابة لا، لا تعقيب على مثل هذا العمل إلا في قاعات الدرس أو في أعمال مستقلة، لسبب واضح: أن القارئ عندما ينتهي من الرواية سيشعر بحاجته إعادة قراءتها، أو على الأقل العودة لبعض صفحاتها ومشاهدها للاستزادة من المتعة.المتعة.. هل الأدب العظيم للمتعة؟ المتعة شيء يتجاوز التسلية أو العبرة، باختصار: المتعة أن نعيش في جو جمالي يخنق شباك الخداع والتنكر والتبعثر في الحياة الحقيقية والتعري والتعالق وراء رؤيتنا ومعاناتنا اليومية لتلك الحياة، ذلك الجو الجمالي الذي يخلو من التفلسف والادعاء والايديولوجية لحساب شيء تعجز كل أجهزة مؤسسة الثقافة عن الامساك به ما عدا جهاز الفن، وبصفه خاصة الأدب ثم بصفه أخص: الرواية ثم بصفه أبعد كم كل صيغ أفعل التفصيل حول الخصوصية: رواية مائة عام العزلة!إن "جابرييل غارثيا ماركيز" في هذه الرواية يكسر كل ما تصوره النقاد من تطور للرواية، إنه يعود لطريقة السرد السريع المذهل السرعة. لا يكاد يتوقف إلا عند حوار عابر سريع لكي نلتقط أنفاسنا ونسافر في زمن ملعون فيزيقي لمدة مائة عام في رحلة تستغرق ساعات. نجري مع السرد في رواية تسير في خط: لها بداية ووسط "تشكل عقدة" ونهاية "حل للعقدة". طريقة قص تقليدية نجدها في مصر اليوم في الحدوتة وفي السيرة الشعبية، ثم في الرواية الاوروبية الكلاسيكية ابتداء بـ"دون كيشوت" وانتهاء – بشكل به قليل من التلاعب – بـ"فوكنر وهيمنجواي" أستاذي "ماركيز" حسبما يردد في اعترافاته.إذا كان العمل كذلك: فلماذا أصيب المديح للرواية في أذن القارئ؟ الحياة اليومية توقعنا في شباك الخداع والتعمية فلماذا لا تفعل رواية "مائة عام من العزلة" نفس الفعل!إن الحياة والرواية توأمان. أحذر خداع الحياة وخداع رواية! إن أحداث الرواية لا تسير في خط فيزيقي للزمان إلا من باب الخداع: فهل الرواية – مثل الحرب – خدعة؟ نعم! أحداث الرواية تنبثق في لحظات الموت التي نري الزمان يخترق الأفق نحو المجهول. إن الخط الذي يعترض الأفق خط يقوم على النبوءة واختراق الغيب ورؤية الزمن الفيزيقي "بالجملة" وليس "بالقطاعي" يومًا بعد يوم وشهرًا بعد شهر وعامًا بعد عام. إن هذه لرواية – دون خداع – هي رواية جمالية في الرواية، وأسطورية شكلت حياة الناس في أمريكا الوسطي.إن لحظة إطلاق الرصاص على محكوم علية بالإعدام من فصيلة تنفيذ الإعدام الاحتضار أو لحظة الموت المقدر بالرياح البدائية التي تهب من داخلنا المتفاني في السعي نحو الفناء، هي لحظة تعفي الراوي الكسول في الرواية من العمل لتتحول الشخصية الروائية إلى "راو" يغيب عن نفسه، فيحكي عنها بضمير الغائب. يصبح الراوي مجرد دليل يحملنا إلى لحظات "موت" تعددت أسبابه لكنه واحد. إن الموت أفق للرؤية الكلية لزمان تفتت باختراع الساعة وإحلال دقاتها محل زقزقة العصافير.الراوي دليل يقودنا نحو الموت، لنري: أقصد "لنسرد" وبسرعة خاطفة حتى ننتهز هذه اللحظة الفاتكة القصيرة جدًا. إن سرعة السرد تطارد الموت وتسبقه فتكسب الحياة "المارثون" ليعيش القارئ المنطقة المحرمة لما وراء الموت.لم يعد زمن الرواية فيزيقيا لكنه لم يترك شيئًا من فيزيقيته بمعني ما للفيزيقية إن الأجيال تموت جيلًا بعد جيل، وكل جيل يموت نرى ماضيه ومستقبل الأجيال التالية في لحظة موته. ولكن الموت الجيلي يتلاشى في استمرارية مائة عام من العزلة لامرأتين خالدتين: أورسولا وبيلارتيرنيرا. يزيل الموت جيلًا ويبقي الجيل الأول فاعلًا: الماضي يسيطر على المستقبل. لكن الماضي سوف يموت يومًا ما وفي لحظة موته نرى فناء "العالم" هل لصالح عالم جديدًا أم أنه فناء نهائي؟هذا هو السؤال! إن طرح هذا السؤال يجعل من العمل الروائي "مائة عام من العزلة" تراجيديا حقيقية، لكنها تراجيديا العالم الثالث، تراجيديا مليئة بالضحك لكنه ضحك كالبكاء. إن كمية السخرية في الرواية تميتنا من الضحك إلى حد البكاء. وخلال البكاء ندرك أن الحب، والحب وحده، هو الحل الذى يجعل الموت التراجيدي انتقاله حقيقة نحو "موت سعيد" يغص بالتعاسة: نحو إجابة ناقصة للســؤال والنقص كمال للتراجيديا.قد نعجز عن إجابة كاملة للســؤال، ومع ذلك فالطبيعة لديها قوة خارقة مثل جواد جامح مُدمّر ينتظر الفارس لكن الفارس ألقى برأسه فوق جذع شجرة القسطل بفناء البيت الكبير وهو يتبول وقبل أن ينتهي من تبوله مات ويجمح الجواد إلى حد الكسل مثل الراوي، الطبيعة تترك للنمل الأحمر أحد أضعف مخلوقاتها مهمة القضاء على الإنسان العالم مثالي. لماذا النمل؟ لأنه أحد الكائنات القليلة المجيشة في الطبيعة. كل شيء له نظامه وجيشه إلا إنسان العالم الثالث الذي يحوّل أحلامه إلى أوهام بمساعدة المستعمر الذي حل محل العناية الإلهية حتى أنه جيش الطبيعة ضد هذا الإنسان فأطاعته بنجييش أضعف مخلوقاتها. النهاية المحتومة المأساوية.إن الفارس الذي مات واقفًا "لم يدخر جهدًا" كان يتبول ليمد الطبيعة بالخصب كي تقضي عليه بناء على أوامر الإستعمار. الزمن الفيزيقي لم يعد زمن الطبيعة لكنه زمن قدر رسمه التخلف الموسوم بآفة عودة إنسان العالم الثالث – بمساعدة الأجنبي – إلى سيرته الأولى: طعامًا لدورة الكربون في الطبيعة.إن آخــر مخلوقات "أســرة بوين ديا" ولد بذيل وأكله النمل الأبيض ليختلط أخيــرًا بتراب عقيم سرق المستعمر خصبه، بعد أن عجز أفراد هذه الأسـرة عن تنمية هذا الخصب لقد ترجموا الخصب إلى أسطورة وأوراق بنكنوت وكلا الأمرين يتبخر تاركًا العقم.هل كان لي الحق في أن أصب المديح للرواية؟أترك القارئ ليقرأ الرواية وليعلم أمرين مهمين: أولهما أن زوجة "ماركيز" مصرية الأب وأن عالم الرواية تقرأه امرأة وحيدة هي "أم" ماركيز قراءة مترجمة ليس إلى اللغة العربية ولا إلى أى لغة أخرى إنما إلى شخصيات وأحداث قد عرفتها وعاشتها في الواقع لقد أفزعها ظهورها باسم سري لها في رواية "تقرير من موت معلن" إلهــي إن العالم كله يعرف أسمي الذى أكرهه! هكذا تردد أمه عند ظهورها في إحدى روايات إبنها.إن ماركيز يشكل أحداث روايته وشخصياتها بعد تجزئ أحداث وشخصيات الواقع ويشكل من الجزئيات – بعد إعادة مزجها – شخصيات وأحداث روايته هذه وغيرها من الروايات والقصص القصيرة شفرة تحلها أمه تلقائيًا.الواقع يكتب الرواية لكن الكتابة فن لا يتحقق إلا بتحقق الكاتب بكيفيات الكتابة، إن الأسطورة الأغريقية وحكاية آدم وحواء وأحداث سفر التكوين ثم كل روايات أمريكا اللاتينية في العقدين: العشرينات والثلاثينات ثم فوكنر.هيمنجواى وعمالقة الرواية قبل 1967 يشكلون مزيجًا تقنيًا بمزيج الشخصيات والأحداث الذي صنعه من واقعة "ماركيز" لتظهر رواية واقعية تتوازى مع التوراة وتتجاوز كل التقنيات الروائية وتسجل تاريخ أمريكا الوسطى والكاريبي بشئ من الروح العربية التي مثلتها "بتراكوتيس" العشيقة التي كانت الوحيدة التي نحت من الطوفان لأنها تملك قلبًا عربيًا. إن أوصاف بتراكويتس تنطبق على مرسيدس زوجته ذات الأصل المصري – الأرميكي اللاتيني. إن هذه الواقعة تمت لنا بصلة هذا موضوع عظيم. أترك للقارئ استكشافه وأعده في المستقبل القريب نشر دراستي عن الرواية وعن صلتها بنا ثم اخيرًا عن رؤيتي للرواية العربية بين معالجتها للواقع واستفادتها من التقنية القصصية على مدى التاريخ بإختصار: أين نحن من عالم روائي أنتج "مائة عام من العزلة"؟هل استطعت أن أقدم لهذا العمل؟ أرجو أن تكون الإجابة: لا! لكني أشعر أنني قمت بترجمة فعلية انتهزت معرفتي بالعلاقة الأمومية للغة العربية مع اللغة الإسبانية لتجنب – ما اراد الكاتب تجنبه – حسبما صرح – من شفاهه وخطابة وكلمات رنانة تفرض تراثًا إسبانيًا على مستوى اللغة الرسمية – في لغة القص الأمر الذي قد تجنبه سكان الكاريبي في حياتهم باستخدام الأمثولة "اليجوريا" لتوضيح كل شيء."مائة عام من العزلة" أمثولة تعيد تأليف "سفر التكوين لشعب" أمريكا الوسطى "وربما" لنا "نحن أبناء" العالم الثالث.أترك القارئ – بكل احترام – ليقرأ عملًا يعد على أصابع اليد مع أعمال قليلة في هذا القرن بل في كل قرن. رواية "مائة عام من العزلة" ما أقسى الرقم "مائة" بين أرقام الرواية" التي نصبت سيركًا من السحر "كانت المائة تنفك وتنعقد بعدد من" الأعداد "التي كانت تمشي على حبل مفرود ومعلق في "سماء" ابتلعت "رميديوس الجميلة" أجمل أشخاص الرواية. الأعداد والأسماء وافعال " دورية الهدم والبناء " تلعب دورية متلاشية للعبة الكراسي الموسيقية.والآن يا جمهور السيرك! يا أيها الجمهور الباحث عن المتعة! إليك وإليكِ وحدكِ نقدم "مائة عام من العزلة".. مائة عام وليس أقل وليس أكثر. ما أعظم أن نعيش "مائة عام" تضاف إلى عمرنا لتحل محل "بضع ساعات" سنقرأ فيها الرواية لد نشرت الطبعة الأولى من هذه الرواية في المكسيك منذ ربع قرن حدث فيه الكثير لكن كل ما حدث وسيحدث ستجده في الصفحات التالية فلا بأس أن تكون هذه النشرة احتفالًا بمرور ربع قرن على صدور العمل الذي يجعل الناس تشير إلى مؤلفه: هذا صاحب "مائة عام من العزلة" ولأنا سأشير إليك أيها القارئ العزيز: هذا "قارئ مائة عام من العزلة" في عيدها الفضي.

مشاركة :