تستقوي حالات التطرف العنفي أو القتالي السنّية والشيعية بشد عصب حواضنها واللعب على وتر الانتقام عند تبرير ميلها للعنف والإلغاء. ثم إنها تتعمد تخوين أو تكفير كل من يخالفها ضمن بيئاتها المذهبية لتسويغ خيارها المتطرف. وراهنًا، تمرّ المنطقة العربية بنماذج لافتة لأقصى حالات التطرف السني والشيعي، تظهر مع التوسع الإيراني عبر أدواتها التنظيمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وبعض دول الخليج، وظهور «داعش» بعد بروز التنظيمات المرتبطة بـ«القاعدة». ولئن كانت الإفرازات العنفية تمثل فصولا في ساحات القتال، فإن بعضها يظهر عبر التفجيرات ضد المدنيين وأعمال العنف ضد الأفراد. ADVERTISING لعل أهم ما أتى في خطاب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله المتأخر، حسب رأينا، في ساحة عاشوراء بمدينة النبطية في جنوب لبنان، يوم 23 مايو (أيار) 2015، إقراره بوجود «الآخر الشيعي».. «الآخر غير الملتحق بإيران» والمنعتق منها، مؤمنا بقيمة الوطن والاعتدال والحداثة والتعايش، وهذا ما يسترعي انتباهنا أنصارًا للاعتدال أو مؤمنين بحقيقة ومستقبل الأوطان في وجه «الدواعش». من الخطأ ابتداءً حصر الآيديولوجية والحركية القتالية العنيفة في الفضاء والفكر السنّي دون الفضاء والفكر الشيعي. إنه خطأ تحليلي وواقعي واضح، يردده البعض من دون تدقيق. إن «الجهاد» المختزل في مفهوم القتال كفكرة وكتأصيل موجود في كلا الأصلين والتراثين، وتوظيفه المعاصر من كلا الطرفين ماثل أمام أعيننا، ويلتقي في خطابه كما يلتقي في أدواته وممارساته التمييزية واللاإنسانية دائمًا. لكن ثمة فارقًا أصيلاً ينبغي التأكيد عليه هو أنه بينما تناهض الدول السنّية التطرّف المتزيّي بزي «الجهاد»، وتبادله العداء، تجد «الجهاديات» الشيعية كل رعاية ودعم وتدريب وتجنيد من الدولة الخمينية ونظام الولي الفقيه. ولا شك أن مجابهة كلا التطرفين لا تكون بالمواجهة العسكرية والأمنية فقط، بل في المقام الأول باستراتيجية تحريرية للإسلام المعتدل والغالب من قبضة هذه الهوامش المتطرّفة: «الداعشية السنّية» الملتحقة بـ«أمرائها»، و«الداعشية الشيعية» الملتحقة بالولي الفقيه والنظام الإيراني معًا. ومن ثَم، التمكين لمقولة دعاة الوطن والدولة الحديثة التي تتسم بالحياد والمساواة، والتي ترتفع فوق التحيز والانتماءات الأولية لمكوناتها بشكل عام، وكذلك عبر استراتيجيات القوة الناعمة التي ترفض احتكار كلتيهما الصحة والمقدّس. * الالتقاء بين وجوه التطرف الطائفي * ثمة مناطق التقاء كثيرة بين حالتي التطرف - أو الداعشية - السنّية والشيعية، التي استدعت كل منهما الأخرى في «سوريا الأسد» و«عراق المالكي». وحتى الآن، فكلتاهما تسعى للتمكين لـ«إمارة» مؤمنيها وإمامتها، وهما تلتقيان في العداء ورفع شعار «الموت لأميركا وإسرائيل»، واستهداف دول المنطقة وحكوماتها تبعًا لذلك. لكن الأخطر في الالتقاء أنه يحاول دائما باستمرار تفجير الطائفة الموالية له وتثويرها في وجه الدولة ووجه الطوائف الأخرى، وإعدام فكرة التعايش والحياد بين مكوّنات الدولة والمجتمع! ويتجلى هذا الالتقاء في العمليتين الأخيرتين لخلايا داعشية نائمة في مسجدين للشيعة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية خلال جمعتين متتاليتين، أولا في بلدة القديح القريبة من مدينة القطيف يوم 22 مايو الماضي، وفي مدينة الدمام يوم 29 مايو. وكذلك، لم تكن الشعارات الطائفية لميليشيا «الحشد الشعبي» العراقية في عملية استعادة الأنبار يوم 26 مايو أيضا «لبيك يا حسين» بناءً على رغبة إيرانية – تحوّلت لاحقًا الرغبة الأميركية والوطنية إلى «لبيك يا عراق» – إلا خطوة في هذا الاتجاه، ونحو الهدف الداعشي نفسه، أي تفجير الطائفية قصمًا وقسمة لفكرة الوطن! أتت العمليات الانتحارية – بدعة «القاعدة» و«داعش» – في بيوت الله محاولة فاشلة للاستثمار في الطائفية واحتقاناتها، حيث المناخ والشعور العام مُحتقن ضد التوظيف السياسي للطائفية، وأثناء «عاصفة الحزم» التي بدأت في 26 مارس (آذار) الماضي بقيادة المملكة العربية السعودية ضد الحالة الطائفية الحوثية المتطرّفة المدعومة إيرانيًا. هذه الحالة الطائفية الحوثية ارتكبت جرائم حرب وإبادة ضد السنّة في عمران ودماج وصنعاء والضالع وأبين وغيرها، قبل وبعد ابتلاعها الدولة اليمنية والشرعية التي تدافع «عاصفة الحزم» ومعها المجتمع الدولي، عنها. وكانت قبلا قد غدرت بكل اتفاقاتها السابقة بدءا من «المبادرة الخليجية» في 23 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2011، ثم «مُخرجات الحوار الوطني» اليمني الذي استغرق أكثر من عشرة شهور وانتهى في 25 يناير (كانون الثاني) 2013، وضم عشرة ممثلين عن الحوثيين أنفسهم، وقعوا على ذلك ولكن كالعادة لم يلتزموا، ثم قرار تقسيم الأقاليم الصادر في 9 فبراير (شباط) 2014، ثم «اتفاق الشراكة والسلم» بعد غزوهم العاصمة صنعاء في 22 سبتمبر (أيلول) 2014. عند كل هذه المحطات تمرد الحوثيون رافضين كل توافق، ومُصدّرين العداء والتهديد وقذائف الأقوال قبل قذائف القتال التي يلقاها ويواجهها السعوديون على حدودهم في جيزان ونجران! ولقد سقط إبراهيم سندي شهيدًا في نجران بقذائف الحالة الطائفية الحوثية كما سقط عبد الجليل الأربش وشقيقه وابن خالته في العنود بانتحارية «داعش»، في يومين متتاليين، ليعلو «الوطن الواحد» و«الدم الواحد» على من يريدون تفجير الأوطان من الداخل. * الاستثمار في الاحتقان الطائفي * تضيق بعض الآيديولوجيات والتعصبيّات الدينية دائما بفكرة التنوع و«آخريها»، ومن هنا حاول نظام الولي الفقيه و«الجهاديات» - أو حالات التطرّف – الشيعية المتحالفة معه، على الدوام، «احتكار الكلام» باسم الشيعة العرب والمسلمين عمومًا. وهو ما تحاوله وتؤكد عليه أيضا «الجهاديات» المنسوبة للسنة.. مع فارق أن هذه الأخيرة مرفوضة من دولها، ومرفوض احتكارها التكلم باسم العالم السني والمسلمين عمومًا. كذلك تتشارك الحالتان التطرفيتان في احتكارهما الوطنية، وتخوين كل منهما «آخريها» بتهم التبعية، وأنهم «شيعة السفارة» كما وصف نصر الله الشارع الشيعي المناوئ لحزبه ولإيران، أو «أبو رغال» كما كان أسامة بن لادن يصف الحكام العرب المعاصرين، في إشارة إلى ذلك الرجل الذي دلّ أبرهة الأشرم على هدم الكعبة! أو كما يصف «داعش» اليوم «القاعدة» بـ«أبناء إيران» وغير ذلك من تهم! ولكن يظل العالم الإسلامي – سنيًا وشيعيًا – وفي كلا الجانبين، أوسع من هذه الهوامش اللاتاريخية الطارئة، المنفصلة عما دخله العرب من حداثة، وما استجدّ من حدود قومية، وما اعتمد من دساتير وقوانين مواطنة تجاوزت عصر الحروب الدينية القديم! إن الاستثمار والتوظيف السياسي للطائفة أوضح ما يكون في جدل البغدادية الداعشية السائر في تكفير كل الشيعة وكل الفرق غير السنّيّة، كما يتجلى في «جهاديات» شيعية بالآلاف ادعت أنها في دفاعها عن نظام الأسدي المتوحش والمستبد، الذي عانت منه كل الطوائف والمواطنين في سوريا، بلا استثناء، ترفض أن «تسبى زينب مرتين» أو تلبي نداء الحسين! وهي في حقيقة الأمر رفعت هذه الشعارات تلبية للرؤية الإيرانية ونتيجة لها دفاعًا عن تابع سياسي خسر شعبه الذي استهدفه بالأسلحة البرّية في أبريل (نيسان) 2011 ثم بالأسلحة الجوية في يونيو (حزيران) من العام نفسه، ثم استخدم الأسلحة الكيماوية 11 مرة حتى أكتوبر (تشرين الأول) 2014، ولا يزال يستخدمها ويستخدم البراميل الحارقة. بيد أن السلاح الأخطر والأفتك الذي استخدمه الأسد فأطال عمر نظامه وعطل مسيرة الثورة هو السلاح الطائفي، إذ نجح في «تطييفها»، فاستجلب لنصرته القوى الطائفية الشيعية منذ مايو 2011، فكان رد الفعل عليه وجود «القاعدة»، ثم «داعش» الذي تأخر ظهوره حتى نوفمبر وديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه! إن الوجود الإيراني المتوسّع والتدخل الميليشياوي الإيراني في «عراق ما بعد صدام حسين» منذ 2003 هو ما أعطى أبو مصعب الزرقاوي – الذي أصرّ على استهداف عموم الشيعة – «شرعيته» السياسية و«حاضنته» في المناطق السنّية، حتى نجح في زرع بذرة «داعش» الأولى في الأنبار عام 2007 عبر حلف «سماه حلف المطيّبين» مع بعض وجوه القبائل، عاد فتكرر في سوريا وفي اليمن. وهو يمتد الآن في عدد من المناطق الأخرى. كذلك ما كان الظهور الأول لأبو محمد العدناني، المتحدث باسم «القاعدة» في العراق، و«داعش» في ما بعد، إلا محاولة للصيد في عكر الاحتقان والتمييز الطائفي ضد السنّة في عهد المالكي وفض الاعتصام السلمي في الأنبار في يناير عام 2013. ويتمدد «الدواعش»، سنةً وشيعةً، من تربة التمييز الطائفي وأتونه، وكانت الذريعة لضرب كنيسة سيدة البشارة أو النجاة في بغداد، حسبما أعلنت «قاعدة» الزرقاوي في حينه، «الردّ على غياب متحولتين للإسلام في مصر عام 2010». كذلك حاول حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، الصيد في عكر تفجيري القطيف والدمام الانتحاريين. وتحاول إيران توسّعًا واستهدافًا صناعة جيوب مستمرة ترهق الدول وتستهدفها، وأنشأت لذلك منظومة أحزاب الله في لبنان عام 1982 وفي الخليج عام 1987 وفي سوريا في 23 يناير الماضي 2015. ثم في مطلع الشهر الحالي أعلن نظام بشار الأسد عن استقبال 20 ألف مقاتل شيعي لمساندة نظامه المترنح والمتراجع في سوريا! التطرّفان الداعشيان السنّي والشيعي، إذن، عولميان وتعبويان.. رغم تجنبهما الصدام. ويلاحظ أنه من أصل 103 وثائق تركها بن لادن في أبوت آباد بعد مقتله في مايو 2011، لم تنل أي منها فكرة العداء أو استهداف إيران، رغم شكوى أحد مراسليه له من سوء معاملة أسرته وعناصر تنظيمه فيها ومراقبتهم من قبل نظام الولي الفقيه! * مشترك تصدير ثورات التطرّف * تنطلق «الجهادية» الشيعية مما أكده الخميني، من أن مبدأه الأول هو «تصدير الثورة». ولكن لن ينجح هذا التصدير إلا في حاضنة طائفية محتدمة ومحتقنة تشعر بالتمييز ضدها، وهو أيضا ما يسعى إليه «داعش» وأخواته مستفيدًا في المجال السنّي، ويتصاعد التخوف منه مع دخول وممارسات ميليشيات الحشد الشعبي ومحاولتها استعادة الأنبار في 26 مايو الماضي.. إنه الاستثمار من أوار التمييز الطائفي لا غير. وتبدو أساليب التعبئة هي الأساليب نفسها، والشعارات نفس الشعارات، وهي تلك التي أعلنها نصر الله في خطابه بساحة عاشوراء، فليس أمام التطرفين «إلا الحرب أكثر مما حاربوا في السابق، أو استسلامهم للذبح واستسلام نسائهم للسبي»، والاستناد لكل المخزون الطائفي والديني محاولين إشعاله، بدءا من ذكرى الإمام الحسين (رضي الله عنه) إلى حادث القديح والقطيف إلى ممارسات كل منهما ضد طائفة الآخر. إن السنّة متن ليست «البغدادية» وأخواتها سوى هامش فيه، كما أن الشيعة متن ليس حزب الله والولي الفقيه إلا هامش فيه، ولا شك أن الضجيج لا يعني الغلبة، والحقيقة البينة أن المعتدلين في الجانبين والمجالين - السنة والشيعة - هم المتن، وهم الجماهير الغالبة والأغلبيات المستقرة، رغم محاولات طيها من هوامش الدواعش، الكافرين بفكرة الدولة وحيادها والمتجاوزين لها. إنهم «الجهاديات» المتناحرة من أجل حكم الخليفة أو الإمام، عبر تأبيد الكراهية التاريخية بين أبناء الأوطان. * استراتيجية تحرير شيعية من إيران * ربما يكون صعبا الحديث عن التشبيك بين اتجاهات الاعتدال في لحظة تناحرية بين المتطرفين، وهم يستهدفون الجميع ويدعون للحرب في المنطقة بأسرها. ولكن لا بد من الاهتمام بها وترميزها وتجسير الجسور في ما بين التيارات المعتدلة، وتأكيد قيمة التسامح والتعايش الطائفي، ويمكن تحديد الخطوط المبدئية التالية في تخطيطها: 1) إدراك وإدارة التنوّع داخل المجال الشيعي، كما هو حادث وماثل داخل المجال السنّي، واتخاذ مواقف مشتركة ضد كلا التطرفين. 2) إدراك التنوع والخلاف بين التشيّع العربي والعلوي من جهة والتشيّع الإيراني السياسي والصفوي من جهة أخرى، كمدارس متمايزة ومختلفة، وتحاشي تجيير الكل لصالح الهامش الإيراني. 3) تجسير الفجوة مع الطرح التجديدي والنقدي للتطرّف الشيعي، منذ طالقاني وشريعتي ومطهري حتى شبستري وسوروش، وغيرهم ممّن فصلوا التوظيف السياسي للطائفة في نظام الولي الفقيه. 4) تجريم وتحريم النزعات والخطابات التعصبية المستنفرة للمكوّنات الطائفية المخالفة، والإدارة الواعية والمسؤولة في إطار الوطن بين التنوعات الطائفية. 5) التعاطي الإيجابي مع الخلاف بين «مرجعية النجف» و«مرجعية قُم» التي تنازعها شرعيتها التاريخية. 6) الانطلاق من «الآن» ومن المكان «هنا» ومن التراث التسامحي العابر للطوائف نحو الأصل الإسلامي، لا الإسلام التاريخي بحمولاته، من الفتنة الكبرى للعصر الصفوي والعثماني، نحو آفاق مشتركة تحافظ على الأوطان ضد محاولات تفجيرها الداعشية. 7) إعادة الاعتبار لسؤال النهضة الذي تحرّر من ثقل الخلافة العثمانية عند نشوئه ويقظاته، منشغلا بتجاوز حالة وفجوة تخلفنا وتقدّم غيرنا، منذ طرحه أخريات القرن التاسع عشر، وليس فقط مع شكيب أرسلان وكتابه الشهير عام 1939، بعيدا عن أسئلة التاريخ التي صارت اعتقادا وخلافا حول الإمامة والخلافة والفتن! التي تعود مع هؤلاء. * كاتب وأكاديمي مصري
مشاركة :