< لو أراد باحث منصف أن يطلق على مدينة جدة وصف «مدينة الأحلام»، فربما يكون قد اقترب قليلاً من أهم خصالها العديدة التي تمتاز بها، ففي كل جزء منها حكايات وقصص تذوب في تفاصيلها، وتاريخ لا ينقضي. جدة في حقيقتها التي لا تفارقها، هي هذا الامتزاج البشري الفريد، هي تعدد الأعراق والأجناس والألوان الذي يغمر ساكنيها، هي هذا الطموح الذي يحيل «زائرها» بعد أيام من سكناها إلى ابن «مدينة الأحلام». وكما للمدن حكايات وأسرار لا تنقضي، تختفي بعضها في حواريها وأزقتها وصدور أهلها، للبشر أيضاً قصصهم التي يخرج بعضها للشمس والضوء، وهذه إحدى الحكايات الفريدة التي تأبى أن تموت في زوايا النسيان. تقع حارة «العمارية « في جدة في آخر الطرف الشرقي لمقبرة «أمنا حواء»، ملتصقة بالسور صعوداً باتجاه الشمال، وللمقبرة تاريخ شفوي متداول يعيد تربتها، وقبتها القديمة إلى أم الخلق «حواء». ولـ«العمارية» أيضاً قصة «حية» لابد من أن تروى، تؤكد أن جدة التي خالطت الماء، وتربت على يديه، أخذت منه غموضه، وبهاءه ونقاءه وامتداده الذي لا ينتهي. في عام 1280هـ ولد طفل نجدي في أطراف مدينة عنيزة بالقصيم، هذا الطفل «رقيق الحال» الذي عُرف فيما بعد بالشيخ علي بن ناصر العماري، لم يكن يدُر في خلده وهو يلعب بين بيوت الطين في عنيزة، أنه سيكون يوماً ما، أحد أغنى أغنياء الجزيرة العربية، وأحد أهم رجالات الملك عبدالعزيز في الحجاز. لقد كان طفلاً محظوظاً للغاية، في زمن كان الحظ قد غادر الجزيرة العربية وفارقها منذ قرون عدة، إذ تلقى تعليماً تقليدياً في سن مبكرة مقارنة مع أقرانه، فدخل كتاتيب عنيزة وتعلم القراءة والكتابة والحساب. وكعادة النجديين التواقين إلى الحياة ولقمة العيش، هاجر الكثير منهم نحو الهند والعراق والشام ومصر، إلا أن ذلك الصبي الفتي اختار أن يغادر إلى الحجاز، وإلى جدة تحديداً، إذ حطت به رحال التعب والوهن. لم يكن النجدي الوحيد الذي استوطن جدة، بل انضم إلى عدد كبير من العائلات ذات الأصول النجدية، والجنوبية التي وجدت في جدة ملاذها ومعاشها وسكناها. التحق علي العماري بالتجارة، إذ البحر والميناء هما الصدر الحنون للغرباء، وعلى أرصفته تنمو الأحلام، وتتجدل الأموال وتتراكم الفرص، إنها مصدر الرزق وباب الغنى لمن عرف دهاليزها وأسرارها. لم تمض سوى أعوام قليلة حتى تحول ذلك الشاب الفقير إلى أحد أغنياء المدينة. وبعدما قضى أعوامه الأولى داخل ما يسمى «سور جدة» انتقل إلى طرفها الشرقي، مؤسساً قصراً ضخماً -أقرب ما يكون إلى قلعة مهيبة بمقاييس ذلك الزمان-، سمَّاه «القصر الأخضر»، وسكنه فيما بعد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- لمدة عامين إثر دخوله جدة. «القصر الأخضر» الذي نمت حوله المنازل والدور والتجارة، تحول فيما بعد ليكون نواة حي «العمارية»؛ نسبة إلى اسم عائلته «العماري»، متوجاً واحداً من أعرق أحياء مدينة جدة حتى يومنا هذا. أثار علي العماري إعجاب الملك عبدالعزيز كثيراً؛ ليصبح من رجالات الملك البارزين، ويقلده مناصب متعددة بالدولة الفتية، كان من أهمها قائم مقام مدينة جدة -وهو منصب مساوٍ لمنصب محافظ اليوم-؛ ليتحول ذلك الشاب من صبي فقير قدم إلى جدة لا يحمل سوى رقة حال وطموح وعقل وقاد، إلى حاكم جدة الإداري وقائم مقامها. إنها قصة «جدة» نافذة البحر والدنيا، التي ولدت معها تفاصيل الحياة والتحدي والثراء والإرادة؛ لتؤكد أن المسافة بين عنيزة وجدة هي مسافة الإرادة ليس إلا. massaaed@
مشاركة :