يتجه لبنان إلى إعادة هيكلة على 3 مستويات، للدين العام والقطاع المصرفي والبنك المركزي. فبعد إعلان الحكومة رسمياً التوقف عن سداد ديونها بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز)، والتي تقدر بنحو 30 مليار دولار، باتت البنوك اللبنانية أمام خسارة ثقيلة من محفظتها من السندات السيادية، والتي تقارب 30 مليار دولار، منها ما يتراوح بين 12 و13 مليار دولار بالعملات الأجنبية. كما ستواجه البنوك خسارة أخرى في حال إعادة هيكلة البنك المركزي (مصرف لبنان)، إذ إنها تحمل محفظة ضخمة من شهادات الإيداع لدى المصرف المركزي بالعملة الأجنبية، تقارب 52 مليار دولار وفق تقديرات وكالة "فيتش".إعادة رسملة كبيرة وإذا ما أضيفت الخسائر المتوقعة من ارتفاع نسبة القروض المتعثرة وسط الأزمة الراهنة، يصبح مؤكداً احتياج البنوك إلى عملية إعادة رسملة كبيرة، قد تصل إلى 30 مليار دولار، بعد الأخذ في الاعتبار تقليص حجم موجودات القطاع نتيجة عمليات إعادة الهيكلة على المستويات الثلاثة الآنفة الذكر.زيادة رؤوس أموال البنوك في الأشهر الماضية، طلب مصرف لبنان من البنوك زيادة الشريحة الأولى من رؤوس أموالها (common equity tier 1) بنسبة 20%، أي بنحو 3.8 مليار دولار، على مرحلتين، كان يفترض أن تنجز الأولى منهما بنهاية ديسمبر 2019، على أن تنفذ الثانية بنهاية يونيو 2020.واشترط مصرف لبنان أن تتم الزيادة من خلال مقدمات نقدية بالدولار الأميركي تأتي من خارج البلاد. حتى الآن، لم تنفذ إلا قلة من البنوك المرحلة الأولى، ما يشير إلى مدى عزوف المساهمين الكبار في البنوك عن ضخ رؤوس أموال جديدة في مصارفهم، ما يرجح صعوبة سد الفجوة الرأسمالية الكبيرة التي تقبل عليها المصارف من خلال المساهمين الحاليين أو مساهمين استراتيجيين جدد.خيارات محدودة للإنقاذ يترك هذا الوضع القطاع المصرفي اللبناني أمام خيارات محدودة للإنقاذ، خصوصاً وأن الحكومة، وهي غمرة أزمة المديونية، ليست في وضع يتيح لها التدخل بعمليات إنقاذ خارجي (bailout) على طريقة "برنامج إنقاذ الأصول المتعثرة – TARP) الأميركي، خلال الأزمة المالية العالمية في العامين 2008 و2009، أو على الطريقة التي أنقذت بها الحكومة البريطانية مصرفي "رويال بنك أوف سكوتلاند" و"لويدز".استبدال جزء من الودائع بأسهم؟ واقع الحال يشير إلى أن الخيار الوحيد المتاح هو اللجوء إلى أموال المودعين، إما من خلال عملية اقتطاع (haircut)، أو عملية إنقاذ داخلي (bail in)، والتي تعني استبدال جزء من الودائع بأسهم في البنوك المتعثرة. ثمة نموذج آخر نوقش في قبرص خلال أزمة العام 2012، يتمثل بفرض "ضريبة ثروة" على الودائع فوق حد معين، على أن تستخدم الدولة عوائد هذه الضريبة في إنقاذ البنوك. غير أن هذا الاقتراح سقط في البرلمان القبرصي، وخرج من دائرة الحلول المقبولة منذ ذلك الحين. ومهما كان شكل الإنقاذ، فقد بات مرجحا أن يفقد المودعون في لبنان جزءا من أموالهم. لكن يبقى السؤال عن المعادلة التي تحكم ذلك. فيما لا يزال كثيرون يأملون أن تقتصر الخسارة على أصحاب الودائع الكبرى من دون أن يتفشى نزولا إلى أصحاب الدخل المتوسط والمحدود. ألمح رئيس مجلس الوزراء اللبناني حسان دياب في الخطاب الذي أعلن في الامتناع عن سداد استحقاقات الدين بالعملات الأجنبية في الـ7 من مارس الجاري، إلى قاعدة ستتبعها حكومته هي الحفاظ على 90% من الحسابات المصرفية من دون مسٍ بها. المفهوم ضمناً أن الاقتطاع قد يطول العشرة في المئة الأكثر امتلاءً من الحسابات المصرفية. غير أنه لم يوضح ما يعنيه ذلك على مستوى الحد الفاصل بين شمول الحساب بـ "الهيركت" من عدمه: هل هو مليون دولار أم 500 ألف أم 100 ألف؟! وخرج وزير الاقتصاد راؤول نعمة بعد ذلك ليوضح أن المطروح ليس "هيركت" بل "إنقاذ داخلي" (bail-in) للبنوك من أموال المودعين، على النحو الذي جرى لمودعي بنك "لايكي" في قبرص.لكن ما هي نسبة الاقتطاع من الودائع الكافية لحل الأزمة؟ وفق المعايير المقبولة عالميا، يعتبر الدين العام في مستوى مقبول من الاستدامة إذا كان بين 60% و80% من الناتج المحلي الإجمالي. ووفقا لحجم الناتج المحلي اللبناني، فلا بد أن ينخفض الدين العام في إعادة الهيكلة إلى 40 مليار دولار كحد أقصى، من مستواه الحالي عند 90 مليار دولار. أي لا بد من الاتفاق مع الدائنين على خصم 55% إلى 60% من أصل الدين على أقل تقدير. هذا يعني خسارة للبنوك في توظيفاتها بالدين الحكومي فقط تتراوح بين 16 و18 مليار دولار.صورة ضابية وفجوة دولارية بـ30 مليار دولار في ما يتعلق بمصرف لبنان، الصورة أقل وضوحا، لكن وفق تقديرات "فيتش"، ثمة فجوة دولارية لديه تزيد على 30 مليار دولار، وهذا يفترض إعادة هيكلة لميزانية مصرف لبنان تتضمن شطبا لما قد يصل إلى 50% من شهادات الإيداع الدولارية التي توظفها البنوك لديه، خصوصا وأن مصرف لبنان سيسجل هو الآخر، خسارة ثقيلة من إعادة هيكلة الدين الحكومي، قد تصل إلى 3 مليارات دولار في اليوروبوندز وحدها، قبل أن نصل إلى إعادة هيكلة السندات بالليرة.شطب 26 مليار دولار إضافية من موجودات البنوك هذا يعني شطب 26 مليار دولار أخرى من موجودات البنوك. تبقى تسليفات القطاع الخاص، والتي تقدر نسبة التعثر فيها حاليا بنحو 12%، وربما ترتفع مع اشتداد الأزمة. لكن لنفترض خسارة فيها بنسبة 10%، أي بنحو 5 مليارات دولار. من مجمل الأرقام أعلاه، ومع بعض التحفظ، يمكن توقع خسائر في موجودات البنوك تتراوح بين 40 و45 مليار دولار، من دون الأخذ في الاعتبار الحساسية لأي خفض محتمل لسعر الصرف الرسمي. وبما أن القاعدة الرأسمالية للبنوك (حقوق مساهمي البنوك أو الشريحة الأولى من رأس المال - tier 1 capital) تبلغ حاليا نحو 22 مليار دولار، فهذا يعني أنها ستصبح بالسالب 20 مليار دولار، في أفضل الأحوال.حجم القطاع المصرفي سينخفض لـ100 مليار دولار؟ سنفترض أنه بعد إعادة الهيكلة سينخفض حجم القطاع المصرفي، أي موجوداته، من 210 مليارات دولار تقريبا، كما في نهاية 2019، إلى مئة مليار دولار، أخذا في الاعتبار انخفاض الدين الحكومي وإعادة هيكلة مصرف لبنان، وانخفاض حجم التسليفات للقطاع الخاص، وتخارج البنوك من وحداتها الخارجية. قد يقلص ذلك حجم القاعدة الرأسمالية المطلوبة للقطاع إلى 10 مليارات دولار، مع دمج البنوك الصغرى في أخرى أكبر حجما. في المحصلة، سيواجه القطاع المصرفي اللبناني فجوة رأسمالية تقارب 30 مليار دولار تقريبا. ليس منتظرا أن يساهم أصحاب البنوك في سد فجوة رأسمالية بأكثر من أربعة مليارات دولار، في أكثر السيناريوات تفاؤلا. ولا يبقى بعد ذلك إلا اللجوء إلى أموال المودعين لإعادة رسملة البنوك. لا بد إذاً من خصم ما بين 25 إلى 30 مليار دولار من الودائع، أو تحويلها إلى أسهم في البنوك بسعر غير منصف، أي ما يتراوح بين 16% و20% من الودائع، وفق أخر البيانات، وقد ترتفع النسبة مع مرور الوقت وانخفاض الودائع. وهذه أرقام تفوق بكثير التقديرات الشائعة، والتي يستند إليها كثير من السياسيين في تفكيرهم وخطاباتهم. هل يمكن خصم هذا الرقم من أصحاب الملايين، وإعفاء صغار المودعين؟ الجواب السريع أن الأمر صعب، غير أن القاعدة الطبيعية تقول إنه كلما زادت نسبة الإعفاء من تحت ارتفعت نسبة الخصم من فوق.
مشاركة :