شيخ الآثاريين العرب.. يُلقي عصاه

  • 3/16/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

رحل عن دنيانا منذ أيام، تحديداً يوم الأربعاء، الموافق 12 فبراير 2020م وعن عمر يناهز التاسعة والسبعين عاماً، عالم الآثار المصري، ورئيس اتحاد الآثاريين العرب، الأستاذ الدكتور على رضوان، أحد القامات العربية في مجال الآثار على مستوى العالم. كان رحمة الله عليه عضواً في لجنة التراث العالمي التابعة لليونسكو، والتي تضم 14 عضواً على مستوى العالم، واختير نائباً لرئيس هذه اللجنة عام 2009م، وهو عضو المؤتمر العالمي لآثار ما قبل التاريخ، وعضو المؤتمر العالمي لعلم المصريات، وعضو المؤتمرات العالمية للآثار النوبية والمروية، وعضو من الخارج بالمعهد الألماني للآثار ببرلين، وعضو لجنة المتاحف العالمية باليونسكو (ICOM) في باريس، ورُشِّح أكثر من مرة رئيساً لها، وعضو لجنة المجلس الدولي للمعالم والمواقع (ICOMS) في باريس، وزميل فى الجمعية العالمية فيAlexander von Humboldt-Stifyung في بون بألمانيا (1975- 1977)، وكذلك زميل المعهد الألماني للآثار الشرقية بالقاهرة، وزميل معهد المصريات بجامعة ميونيخ بألمانيا، وأستاذ زائر بعدد كبير من الجامعات الأوروبية والأمريكية، ومقرر ومؤسس اتحاد الآثاريين العرب منذ إنشائه عام 1998م وحتى رحيله. ها هو يلقي عصاه ويستقر به النوى بعد رحلة طويلة، امتدت لأكثر من ستين عاماً، من الجهد والعطاء في مجال العمل الأثري، والدراسات العلمية الأثرية والمتحفية، منذ تخرجه من كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1962م وحتى وفاته. والدكتور على رضوان من مواليد محافظة الإسماعيلية شرق مصر عام 1941م، وفور تخرجه التحق بالعمل الأثري في هيئة الآثار المصرية لسنوات قليلة، ثم سافر بعدها في بعثة حكومية إلى جامعة ميونيخ بألمانيا للحصول على الدكتوراه في الآثار المصرية القديمة، وحصل عليها عام 1968م؛ ليعين بعدها في كلية الآثار بجامعة القاهرة، وليشغل منصب رئيس قسم الآثار المصرية، ثم عميدًا لكلية الآثار لفترتين في المدة من 1987-1993م. وطوال عمله الجامعي، كان مثالاً في الالتزام، والجدية، والعطاء، وكان كما قالت عنه الكاتبة الصحفية سكينة فؤاد: «عالم وأستاذ مصريات مسكون بحضارة بلاده، وواحد من الحراس والأمناء على تراث بلاده». شرفت بأن درست على يديه مقرر «فن المتاحف والحفائر» في العام الثالث من دراستي الجامعية، فكان نموذجاً في الالتزام بموعد محاضراته إلى حد كبير رغم مسؤوليات العمادة ومشاغله الإدارية. كما كان نموذجاً في التدريس الجامعي، ولكم شدَّني إليه أسلوبه المتميز، وحرصه على استعمال اللغة العربية الفصحى، وارتجاله لها، وطلاقة لسانه بها، في نبرة مميزة ونطق عذب محبب. كان بالفعل كما قال عنه الأستاذ فهمي عمر رئيس الإذاعة المصرية الأسبق: «الدكتور على رضوان لا يدرِّس الآثار محترفاً، وإنما يدرِّسها عاشقاً، متبتلاً في محرابها». هو بالفعل كان متيماً وعاشقاً للآثار، وجاهد لاستجلاء ما فيها من فن وجمال وقيم علمية ومعرفية. لقد كان يأخذنا شرحه الجذاب في جولات خيالية، ورحلات فكرية، إلى دهاليز التاريخ المصري القديم، وإلى أروقة المتاحف العالمية، فحببنا في علم المتاحف، والفنون والآثار القديمة. وكان عشقه وحبه للآثار والفنون القديمة بشكل عام، وللآثار المصرية بشكل خاص، يقطر من كلماته، وتعبيراته، ونبرات صوته؛ لينفذ إلى قلوبنا دون أن يطرق باباً أو يستأذن للدخول، فأورثنا هذا العشق، وأحسبه قد أثَّر في أجيال ممن تتلمذوا على يديه فأحبوه وأُشربوا منه حب الآثار. يقول عنه الدكتور زاهي حواس معلقاً على أسلوبه المميز في تدريس الآثار المصرية القديمة: «لقد كان الدكتور رضوان بارعًا فى انتقاء كلماته بلغة عربية جزلة حين يشرح الآثار المصرية، وكان يصعب أن يجاريه أحد فى براعته وفصاحته ولباقته اللغوية التى جعلت منه واحدًا من أعظم العلماء الذين نجحوا بجدارة منقطعة النظير فى إبراز عظمة الحضارة المصرية القديمة». ولقد تخرج على يديه مئات بل قد يكون الآلاف من الآثاريين، وعدد لا يحصى من تلامذته الذين صاروا أساتذة فى كليات الآثار، أو أقسام الآثار بالجامعات المصرية والعربية والأجنبية. يعتبره البعض امتداداً طبيعياً لجيل الرواد من علماء الآثار المصرية، وأعلام علم المصريات المصريين، أمثال: أحمد باشا كمال، وسليم حسن، وأحمد فخري، وعبدالمنعم أبوبكر، وجمال مختار -رحمهم الله جميعاً-. وهو شخصية عصامية، وجادة، وحازمة، شاءت الظروف أن جمعتني به رحلتنا الجوية إلى ليبيا عام 2010م في مؤتمر الآثاريين العرب، وأن يكون مقعده بجواري في الدرجة الاقتصادية، بين تلامذته من شباب الباحثين، كواحد منهم، دون أن يميز نفسه عنه وهو رئيس اتحاد الآثاريين العرب، ووجدتها فرصة أن أدخل معه في نقاشات طوال الرحلة، التي لم يتحرك من كرسيه خلالها، حول مشروع هضبة الهرم، وموضوعات أخرى، خاصة بي وعامة، ولم ترهبني جديته، والصرامة البادية في وجهه وحديثه، وخلو حديثه من التبسط إلاّ في حدود ضيقة، أن أتشجع وأخبره أننا في حاجة إلى إنتاج له بالعربية، وأن مؤلفات بالعربية من تأليفه ستكون بلا شك ذات فائدة كبيرة، وستعم فائدتها المتخصصين وغير المتخصصين من المثقفين والمحبين للآثار المصرية، فتعلل أن أغلب أعماله وأبحاثه بالألمانية والإنجليزية، وربما يحتاج ترجمتها أو صياغتها بالعربية إلى وقت طويل وجهد كبير، لكنه وعد بأن يفعل ذلك بعدما بدا لي أنه استحسن الفكرة. كان حبه الشديد لآثار بلاده وحرصه عليها جعلاه يدخل في معارك وتصادمات عديدة مع وزراء ومسؤولين كبار دفاعاً عن الآثار ودفعاً عنها ما يهددها ويشكل خطورة عليها من بعض المشروعات، وكان سلاحه في ذلك علمه وإيمانه بقيمة الآثار والحفاظ عليها، وحبه لها، ووفق في الكثير من هذه المعارك التي وقف معه فيها الكثير من النبلاء المؤمنين مثله بآثار بلادهم والمتحمسين لحمايتها والدفاع عنها. فكان بحق كما قالت عنه الدكتورة نعمات أحمد فؤاد: «الدكتور على رضوان في جامعته ووطنه علماً مرفوعاً، وصوتاً مسموعاً، وتاريخ في التاريخ». ساهم وأشرف على مئات من الرسائل العلمية، وكان له إسهام مباشر في تسجيل حضارة مروي بالسودان على قائمة التراث العالمي. وكان مفعماً بالنشاط ودائم العطاء العلمي من إلقاء للمحاضرات العلمية هنا وهناك، ونشر للمقالات، ومشاركات في المؤتمرات العلمية بانتظام إلى آخر أيام حياته، فلم يقعده إلا مرضه الأخير. ولمكانته العلمية، وقيمته وقامته، قدَّرته بلده فكان عضو الشعبة القومية للمتاحف، وعضو الشعبة القومية لليونسكو، وشعبة التراث الحضاري والأثري بالمجالس القومية المتخصصة، وعضو لجنة الآثار بالمجلس الأعلى للثقافة (سابقًا)، وعضو اللجان العلمية بهيئة الآثار المصرية، وعضو مجلس إدارة المتحف المصري (سابقًا)، ومقرر اللجنة العلمية الدائمة للآثار الفرعونية وتاريخ مصر والشرق القديم لوظائف الأساتذة والأساتذة المساعدين (سابقًا). كما كان عضوًا بالمجمع العلمي المصري، ورئيس بعثة جامعة القاهرة في حفائر منطقة «أبوصير» (شمالي سقارة). كما شارك في العديد من اللجان العلمية الخاصة بالعمل الأثري بالمجلس الأعلى للآثار بوزارة الآثار في مصر، وكان رئيس لجنة إعداد العرض المتحفي بمتحف إخناتون في مصر، حتى عام 2014م رئيس اللجنة العلمية لمتحف الحضارة حتى عام 2014م. كل هذا الجهد وهذا العمل وهذه الدراسات العلمية عالمياً وعربياً ومصرياً جعلته جديراً بالكثير من التقدير والتكريم داخل مصر وخارجها، فحصل على جائزة الدولة المصرية التشجيعية في الآثار، ووسام العلوم والفنون عام 1983م، وجائزة الدولة المصرية التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2003م، والوسام الكبير للجمهورية الألمانية بدرجة قائد وذلك عام 2006م، ووسام الشرف النمساوي في العلوم والفنون من الدرجة الأولى عام 2009م. وجائزة النيل (مبارك سابقاً) عام 2009م، وكرَّمه المجلس الأعلى للآثار في عيد الآثاريين عام 2010م. وفي ظني أن أكبر جائزة نالها الأستاذ الدكتور على رضوان هو هذا التقدير والاحترام لشخصه، وعطائه، وقامته العلمية، عالمياً ومصرياً وعربياً، وهذا الحب الذي يملأ قلوب من تتلمذوا على يديه، ومن تعاملوا معه، في المجال الأكاديمي وفي العمل الحقلي طوال حياته، فجزاه الله عنا خيراً، ورحمة الله عليه وأسكنه الله فسيح جناته. ** **

مشاركة :