عدم اليقين... سبب هبوط الأسواق وانعدام الثقة

  • 3/18/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أكد الأستاذان في كلية العلوم الإدارية بجامعة الكويت، د. سعود الثاقب، من قسم التمويل، ود. براك الغربللي من قسم الإدارة العامة، دراسة عن حالة عدم اليقين ودورها في هبوط الأسواق وانعدام الثقة والتأثير المرتبط بها على اقتصاد الدول والشركات والأفراد والمطلوب اليوم بعد ظهور فيروس كورونا وانتشاره في الصين وكل أنحاء العالم، مما زاد من نسبة «عدم اليقين». في ظل انتشار فيروس كورونا اليوم بشكل سريع حول العالم، وهبوط أسعار النفط المفاجئ، وعدم استقرار السياسة النقدية، وتأثيرهم الكبير والواضح على الاقتصاد العالمي، يتساءل كثيرون: ما علاقة عدم اليقين بالاقتصاد؟ لهذا السؤال العديد من الأجوبة، فمنذ الأزمة المالية العالمية في 2008 ، ظهرت العديد من التحديات السياسية والاقتصادية، مما سبّب زيادة عدم اليقين العالمي، بدءا بـالربيع العربي، وانتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وظهور أيديولوجيات سياسية يمينية، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كلها عوامل زادت من الشكوك حول مستقبل السياسات الاقتصادية حول العالم، مع استمرار تطوّر العالم بوتيرة سريعة، خلقت هذه التغييرات شعوراً بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، مما يزيد من حالة عدم اليقين في جميع أنحاء العالم. باختصار يعود الكثير من التذبذب بالاقتصاد العالمي لموضوع «عدم اليقين»، خصوصا عندما يتعلق بالتوقعات بالمستقبلية، فكلما زادت الضبابية ونسبة عدوم الوضوح، زادت تخوفات الناس والشركات والدول، وهذا ينعكس بشكل مباشر على قراراتهم المالية والاقتصادية وثقتهم بالأسواق والسلطات التنظيمية والرقابية، فالموضوع ليس مجرد «كورونا»، بل هو مرتبط بكل حدث يزيد من نسبة عدم اليقين مثل الحروب والكوارث الطبيعية، أو حتى في الفترات الأولى بعد انتخاب رئيس جديد في الدول الديمقراطية، فهناك إجماع عام اليوم على أن عدم اليقين في السياسة الاقتصادية له آثار ضارة على العديد من العوامل الاقتصادية وسياسات الإدارة المالية للشركات، فمن الضروري أن يكون هناك فهم أوسع لكيفية تأثير عدم اليقين على قراراتنا، لذلك قمنا في بحث نشر أخيرا بأحد المجلات العلمية العالمية المحكمة، جمعنا خلاله تأثيرات «عدم اليقين في السياسات الاقتصادية» على الأفراد، والشركات، والاقتصاد ككل، وسنحاول أن نلخّص هذا البحث بهذا المقال، لأهمية الموضوع، خصوصاً في ظل أحداث اليوم المتداخلة التي زادت من نسبة عدم اليقين الاقتصادي. تعريف عدم اليقين ما المقصود بـ «عدم اليقين»؟ فلا يوجد تعريف واحد وثابت لهذا المصطلح، فقد يشمل المخاطر الجيوسياسية، أو التشغيلية، أو حتى الأخبار الخاصة بالشركات، مثل عدم دقة توقّعات المبيعات، والشائعات حول رحيل الرئيس التنفيذي، أو التغيير في الإدارة، أو حتى ضبابية السياسة النقدية وأسعار الفائدة على مستوى الدولة، أو عدم وضوح السياسة المالية للحكومات من عجز وفائض، أو عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات والقوانين والتشريعات المرتبطة بها، من الواضح أن العديد من العوامل تؤثر على عدم اليقين، لذلك يمكن تعريف حالة عدم اليقين الاقتصادي بأنها اسم جامع لجميع هذه المتغيرات التي تؤثر على النظام الاقتصادي، وفي بحثنا ركزنا على عدم اليقين بالسياسات الاقتصادية، والمقصود فيها عدم وضوح السياسات الجديدة التي سيتم اتخاذها بناء على الأحداث العالمية والمحلية (مثلاً: لمواجهة فيروس كورونا وهبوط أسعار النفط)، فهذه السياسات قد يكون لها تأثير محلي وعالمي على الاقتصاد ككل، فبعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ، بلغت الشكوك حول السياسات الحكومية ذروتها، فحالة عدم اليقين أدت بشكل خاص إلى تأخير التعافي من الركود، حيث أجّلت كثير من الشركات والأفراد قراراتهم بشأن نفقات الاستثمار والاستهلاك. فيتبادر السؤال كيف نحدد ونقيس نسبة عدم اليقين؟ جمع مجموعة من الباحثين الاقتصاديين العالميين هذا المصطلح في مؤشر واحد، وهو مؤشر «عدم اليقين بالسياسات الاقتصادية»، ويقيس هذا المؤشر نسبة عدم وضوح السياسات الاقتصادية عن طريق تحليل مؤشرات الأسواق، والسياسات العالمية والمحلية، والمؤشرات الاقتصادية، وحتى يشمل تحليل لعناوين الأخبار في الصحف، ويجمع هذا المؤشر الجديد كافة هذه العوامل بمقياس واحد، كلما زادت قيمته يعني زيادة نسبة عدم يقين في الأسواق والاقتصاد، لذلك سنحاول تسليط الضوء على العلاقة بين المؤشر وبقية أركان الاقتصاد. الانعكاس على الأفراد عدم اليقين في السياسات له تأثير كبير على الإنفاق الاستهلاكي، فعدم الوضوح يؤثر على القرارات الاستهلاكية والاستثمارية للأفراد بسبب المخاوف من انخفاض الدخل الشخصي، وهذا أمر طبيعي، فالكثير من القرارات يتم تأجيلها أو إلغاؤها إلى حين استقرار الأوضاع، ووضوح الصورة بشكل أكبر تفادياً للمخاطر، خصوصًا إذا كانت ليست من الأولويات والضروريات، وكذلك تقل ربحية الشركات، مما يقلل من حافز الاستثمار فيها بالنسبة للأفراد، وهذه الآثار أقوى خلال فترات الركود، لذلك تؤدي صدمة انخفاض الطلب الناجمة عن التغيير في سلوك الأفراد والأسر إلى انخفاض في الإنتاج والثروة ككل، وبالتالي سنري تأثيره على السياسات المالية للشركات المتداولة في جميع أنحاء العالم. السياسة المالية للشركات التأثيرات السلبية ليست مقتصرة على الأفراد فقط، فتبين الدراسات أن عدم اليقين يمكن أن يؤثر على قرارات الشركات على الصعيدين الداخلي والخارجي: داخلياً عن طريق تقليل القابلية لأخذ المخاطرة، وخارجياً عن طريق زيادة صعوبة الاقتراض أو حتى صعوبة جذب مستثمرين لزيادة رأس المال، فتشير نتائج الأبحاث إلى أن عدم اليقين له تأثيرات كبيرة على سياسات الشركات المالية، فهو يدفع الشركات إلى اتّباع سياسات أكثر تحفظا، فتزيد تكلفة الاقتراض وتقل معها خيارات التمويل المتاحة، فتنفق الشركات أقل على المشاريع الرأسمالية، وتقل أيضاً عدد الطروح الأولية للاكتتاب العام بهذه الفترات، وكذلك عمليات الاندماج والاستحواذ (M&A)، وتحتفظ الشركات بالمزيد من النقد تحسبًا لأي طارئ، والتأثير السلبي لا يقتصر على ذلك، بل يصيب الابتكارات التي تقل في فترات عدم اليقين، وبعبارة أخرى وملخصة، خلال أوقات ارتفاع مخاطر الشكوك وعدم وضوح الرؤية، تكون الشركات أكثر تحفّظا بقراراتها، أو أن تضطر إلى أن تكون أكثر تحفّظا بسبب ظروف السوق المالية. الأسواق المالية عدد كبير من الدراسات تعتبر عدم اليقين عاملاً رئيسياً مؤثراً على الأسواق المالية، وتشير إلى أهمية قياسه ومتابعته، وتسليط الضوء على تأثيراته على القرارات المالية كما ذكرنا، فبالتالي عوائد الأسواق المالية تكون أقل في فترات عدم اليقين في الاقتصاد، بل وحتى له تأثير على كمية التداول والسيولة في البورصات العالمية، والتأثير يطال القيم السوقية للأسهم والأوراق المالية المتداولة، وحتى ردود الأفعال الأسواق على الإفصاحات المفاجئة تكون أقل، حتى لو كانت الأخبار إيجابية، وتزيد نسبة التشتت والتذبذب عند ارتفاع مؤشر عدم اليقين، ويمكن قياس ذلك بالفرق العالي بين أسعار العرض والطلب، وكذلك اتساع هوة التذبذب في التداول اليومي، علاوة على كل ذلك، تصاحب هذه الفترات انخفاض كفاءة الأسواق وتزيد فيها المخاطر دائمًا. كذلك زيادة نسبة عدم اليقين مرتبطة بزيادة التقلبات الكلية في الأسواق، والشركات أكثر عرضة لتأثيرات عدم اليقين خلال هذه الفترات، والتأثير لا يقتصر على أسواق الأسهم والبورصات، بل يمتد لجميع أسواق رأس المال وبقية الأصول؛ ومرتبط أيضا بقيمة برميل النفط وقيمة الذهب وبقية السلع بأسواق العقود المستقلبية، ناهيك بارتباطها الوثيق بتحرّك معنويات المستثمرين، فهي واحدة من العوامل الرئيسية التي تساعد على انتشار الخوف والتشاؤم في الأسواق، على الرغم من أن الباحثين يوثّقون أهمية عدم اليقين وآثاره على الاقتصاد والأسواق المالية، إلا أن المستثمرين ليسوا على استعداد للتحوط ضده، على الرغم من انخفاض تكاليف التحوط من المخاطر في السنوات الأخيرة. اقتصادات الدول التأثيرات السلبية على الشركات والأفراد من الطبيعي لهم انعكاس سلبي على الاقتصاد ككل، فترتبط أيضاً زيادة نسبة عدم الوضوح بازدياد نسبة البطالة، إضافة إلى تباطؤ في الإنتاج والتوظيف، وترتبط بشكل سلبي حتى بنسبة الفائدة ونسب التضخم، فيؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي، لذلك فإن عدم اليقين يرتبط بعلاقة عكسية بالدورة الاقتصادية، ينخفض خلال فترات الازدهار، ويرتفع خلال فترات الركود، لذلك فإن زيادة عدم اليقين سيكون لها تأثير طويل الأجل على الاستثمارات الرأسمالية، مما يعني أن انعكاساتها على النمو الاقتصادي تكون طويلة الأمد. فبكل اختصار زيادة نسبة عدم الوضوح مرتبطة بكل مكونات الاقتصاد المحلي والعالمي بما في ذلك الاقتصادات النامية والمتقدمة، ولكن تأثير عدم اليقين أكبر على الاقتصادات الضعيفة مثل دولنا في المنطقة، وتأثير لا يكون محليا فقط، بل له القدرة على الانتشار والانتقال الجغرافي لدول واقتصادات أخرى مجاورة. ما المطلوب في زمن «عدم اليقين»؟ يكون السؤال التالي الطبيعي، ما هو المطلوب اليوم؟ ظهور فيروس كورونا وانتشاره في الصين وكافة أنحاء العالم زاد من نسبة «عدم اليقين»، فلا استشاري الطب ولا خبير الاقتصاد ولا أي أحد اليوم قادر على التنبؤ إلى أي مدى سينتشر الفيروس، ومتى سيتم القضاء عليه بشكل نهائي، وهذا كله له تداعيات اقتصادية كبيرة، فبداية انتشاره بالصين يعني أن الكثير من المصانع اضطرت إلى أن تتوقف عن الإنتاج والعمل لفترة زمنية، والكثير من الشركات العالمية معتمدة بشكل كبير على مصانع الصين، وحالة الهلع العامة في العالم من الفيروس أثّرت على أغلب القطاعات، ومن الطبيعي أن كل هذه الأمور ستنعكس بشكل سلبي على الاقتصاد العالمي، فها نحن اليوم نرى هبوط مفاجئ وكبير بكل البورصات العالمية من غير أي استثناء، وهذا الهبوط مصحوب بهبوط كبير بسعر برميل النفط العالمي لسعر لم تشهده الأسواق منذ سنوات، خصوصا بعد الخلاف بين أعضاء دول منظمة أوبك على كمية الإنتاج، وكل هذه الأحداث ظهرت بوقت فيه ملامح قرب أزمة اقتصادية جديدة. بعد استعراض نتائج مجموعة كبيرة من الأبحاث والدراسات في هذا المجال، والتأكيد على مدى تأثير عدم اليقين على إنفاق واستثمارات الشركات والأفراد والأسواق المالية والاقتصاد ككل، ننصح الأفراد بعدم التسرع بالاستثمار في هذه الأوقات، وفي الوقت نفسه عدم المبالغة في الخوف والهلع، وأفضل الخيارات الاتجاه نحو الاستثمار المؤسسي، لتقليل الانحيازات السلوكية والعاطفية التي قد تؤثر على القرارات الاستثمارية والادخارية، وفي الوقت نفسه المطلوب من الشركات الاستثمارية العمل على توفير منتجات استثمارية مختلفة ومتنوعة، لتحتوي وتلبي رغبات جميع المستثمرين، خصوصًا الأفراد، لحماية الأسواق من التقلبات المستقبلية. زيادة الشفافية والتوصية الأهم هي زيادة الشفافية في جميع أركان بيئة الأعمال الاقتصادية، وعلى وجه الخصوص بين الشركات والمستثمرين، عن طريق زيادة الإفصاحات الطوعية، وعدم الالتزام بالحد الأدني فقط من المتطلبات الرقابية، والمزيد من الشفافية الحكومية، من خلال شرح سياساتها العامة مع المواطنين، وبالتحديد السياسات الضريبية، للحد من مخاطر زيادة عدم اليقين الاقتصادي، وتأتي أهمية ذلك بعد زيادة احتمال إنشاء ضرائب جديدة في الكويت، بعد الدخول باتفاقيات ضريبية مع دول مجلس التعاون، وينبغي جعل السياسات الاقتصادية أكثر شفافية وأكثر قابلية للتنبؤ من خلال وضع قوانين بسيطة وواضحة وسهلة الإدارة، تشجع على الاستثمار طويل المدى، ومن الضروري أيضا أن يتم وضع سياسات مالية ونقدية لإدارة المخاطر للتقليل من خطر الأزمات. ولا يمكن أن نختم من غير التذكير بأهمية إعادة هيكلة اقتصاد دولة الكويت، فمن غير المعقول ان نعلّق مستقبل وآمال البلد بسعر برميل نفط لا نملك أي سلطة ولا قدرة على التحكم فيه، مما يجعل اقتصادنا غير مستقر ومستقبله مليئاً بعدم اليقين، وسط غياب أي رؤية اقتصادية حقيقية، فميزانية دولة الكويت المقترحة للسنة المالية 2020 / 2021 تعكس أحد أكبر العجوزات في تاريخ الكويت ( 9.2 مليارات دينار)، وهذا العجز تم تنبؤه بافتراض أن متوسط برميل النفط سيكون ٥٥ دولارا، وهو سعر أعلى من سعر برميل النفط الحالي، مما قد يدفع لزيادة العجز في الميزانية اذا استمر سعر برميل النفط بهذه الأسعار المنخفضة، فلا بدّ من التفكير بجدية بخريطة طريق جادة، ورؤية حقيقية لتنويع مصادر الدخل، من أجل الوصول إلى اقتصاد أكثر استقرارا لنا ولأبنائنا، والأهم أن تكون هناك حصافة وواقعية وقابلية للتطبيق لأي خطة اقتصادية جديدة.

مشاركة :