بعد ثماني سنوات من الحرب في سورية، نشأ صراع ملحمي في إحدى محافظات الشمال الغربي في إدلب، وهي آخر أرض تحول دون استرجاع الرئيس السوري بشار الأسد سيطرته التامة على البلد. وبما أنها تُعتبر ملجأً أخيراً للكثيرين، شكّلت نقطة جذب لأكثر الجماعات تنوعاً في العالم، فيتراوح فيها السكان بين ملايين اللاجئين الأبرياء وعدد كبير من الجماعات المقاتلة، أبرزها "هيئة تحرير الشام" (فرع من القاعدة) وفيها 20 ألف مقاتل، وتُعتبر هذه الهيئة أشبه بسلطة حاكمة في المحافظة منذ أشهر. في الوقت الراهن لا تشبه هذه الأرض أي منطقة أخرى في العالم كونها تشكّل ساحة معركة محتدمة تتنافس فيها مصالح أربع قوى كبرى على الأقل (روسيا، تركيا، إيران، الولايات المتحدة)، وتنشر القوى الثلاث الأولى عناصر قتالية ميدانية في إدلب، فقد بدأت القوات السورية المدعومة من روسيا تتقدم من الجنوب، فدفعت 700 ألف لاجئ ومقاتل معارض للنظام نحو الحدود مع تركيا، وخسرت تركيا المنتسبة إلى حلف الناتو أكثر من 30 جندياً وأسقطت ثلاث طائرات سورية وتحاول التصدي للخصوم بكل قوتها، وتقول أنقرة إنها لا تستطيع استضافة عدد إضافي من اللاجئين، لذا بدأت توجّه الأعداد التي استقبلتها نحو الحدود مع اليونان وباتجاه أوروبا، ويبدو دور إيران أقل وضوحاً، لكنها اعترفت في وقتٍ سابق من هذا الشهر بمقتل عدد كبير من حلفائها في حزب الله اللبناني، بالإضافة إلى مقاتلين من الميليشيات الشيعية التي تقودها في إدلب، من جراء الضربات التركية، إذ تنتشر القوات الأميركية المحدودة المتبقية في أماكن أخرى من سورية، لكن تأمل واشنطن وصول المساعدات الإنسانية إلى المنطقة. قد يكون هذا الصراع آخر معركة حاسمة في الحرب السورية، رغم استمرار القتال المنخفض المستوى منذ سنوات، فما موقع اللاعبين الكبار في هذه المعركة إذاً؟ لقد انتصر الأسد، عسكرياً على الأقل، إذ اندلعت حربه في عام 2011، حين بدأ السوريون يحتجّون على حكمه الصارم وسط أحداث الربيع العربي، أي الانتفاضات التي انطلقت ضد الأنظمة الاستبدادية في تونس وانتشرت سريعاً في أنحاء المنطقة، وتحديداً في مصر وليبيا واليمن، ومن بين القادة الإقليميين الذين أجّجوا احتجاجات محلية عنيفة، نجح الأسد وحده في التمسك بالسلطة. ويدين الأسد بصموده لروسيا وإيران، فهما نشرتا أعداداً كبيرة من القوات الميدانية والجوية لإنقاذه، ولكن بعد مقتل 400 ألف سوري، وهروب 5.7 ملايين من البلد، ونزوح 6.1 ملايين داخلياً، حيث أصبح الأسد حاكماً بلا شرعية، مما يعني أنه لا يستطيع المطالبة بأي مساعدات دولية لإعادة بناء البلد. تتحمل روسيا جزءاً من اللوم على المعاناة الإنسانية هناك، لكن وفق المنطق الغريب والمهووس بالسلطة في الشرق الأوسط، ظهرت موسكو بصورة القوة العظمى التي وقفت إلى جانب حليفها وأبدت استعدادها للمجازفة بقوتها وسمعتها من أجل الأسد. لا تسعى روسيا إلى أداء دور الوساطة في عدد كبير من الصراعات في الشرق الأوسط، لكن سمحت لها سياستها الدبلوماسية البارعة بإقامة علاقات ممتازة مع جميع الدول العربية وإسرائيل وإيران، إذ يقصد حكام هذه البلدان روسيا دوماً للتشاور، لذا قد يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم أقوى زعيم خارجي في الشرق الأوسط. تسعى إيران إلى ترسيخ موقعها في سورية وتخطط للبقاء هناك، فوفق تقديرات "مجموعة دراسة سورية" التي شكّلها الكونغرس الأميركي، يتراوح الوجود العسكري الإيراني في سورية بين المئات والآلاف، إلى جانب المقاتلين في الميليشيات التي توجّهها وتدعمها بالإمدادات، كذلك جلبت إيران أنظمة أسلحة متقدمة وأنشأت مراكز قيادة عسكرية وتعتبر سورية جسر نفوذ بين الخليج ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، كما أنها تشكّل طبعاً منصة لإطلاق التهديدات ضد إسرائيل. أما تركيا فتتخبط بين اتجاهات متعددة، فهي تعارض تقدم الأسد لكنها لا تريد محاربة روسيا، بل تحاول الحفاظ على علاقات حسنة معها على أمل أن تؤثر على التسوية السياسية السورية النهائية، لا سيما فيما يخص مستقبل الأكراد في البلاد، كما تعتبر أنقرة أكراد سورية حلفاء للأكراد الأتراك الذين يدخلون في خانة الإرهابيين والانفصاليين بنظر قادة تركيا، وفي غضون ذلك يؤدي رفض تركيا استقبال أعداد إضافية من اللاجئين إلى توتر علاقاتها مع أوروبا، كما أن سياستها الصارمة تجاه الأكراد زادت خلافاتها مع الولايات المتحدة، حليفتها في الناتو التي تعاونت عن قرب مع الأكراد في العراق وسورية. خسرت الولايات المتحدة معظم نفوذها في سورية وفقدت قدرتها على تحديد مستقبل البلد بسبب سياستها المترددة في عهد أوباما وسياستها الخرقاء في عهد الرئيس دونالد ترامب، فقد كانت القوة الأميركية المحدودة في الشمال الشرقي (نحو ألف عنصر) تتمتع بنفوذ يفوق حجمها للحفاظ على الاستقرار نظراً إلى تواصلها مع قوات أميركية أكبر حجماً وأكثر قوة في أماكن أخرى من المنطقة، لكن مع تراجع الأعداد العسكرية الأميركية وتغيّر طبيعة مهامها (تتولى الآن حماية مخزون النفط الضئيل في سورية)، لم يعد اللاعبون الأساسيون في سورية والمنطقة يفهمون نواياها، بل باتوا يشككون بجدّيتها ونفوذها. من المتوقع أن يكون حكم التاريخ على هذه الأحداث كلها قاسياً، فمن وجهة نظر إنسانية تتجاوز المأساة في سورية مآسي حروب البلقان بأشواط، حتى أنها تتخطى أهوال الإبادة الجماعية في رواندا في عام 1994 على بعض المستويات. من الناحية الاستراتيجية، قد تفوق خسائر الولايات المتحدة جميع توقعاتنا الراهنة، ومن المبرر ألا يرغب الأميركيون في خوض حرب أخرى في الشرق الأوسط، لكنهم بالغوا على الأرجح في استخلاص الدروس من تجربة العراق، ولم تكن سورية يوماً مرشّحة لذلك النوع من التدخل الأميركي المكثّف، بل إنها كانت تحتاج في المقام الأول إلى أهداف متماسكة وأولويات واضحة، إلى جانب سياسة دبلوماسية متقنة وقوة عسكرية متواضعة، ربما فات الأوان على هذه المعادلة الآن، لكن يبقى العالم مستعداً لتقبّل القيادة الأميركية على نحو مفاجئ مهما حصل... حتى لو استُعمِلت تلك القيادة في مرحلة متأخرة!
مشاركة :