من كان يتخيل أن لا يستطيع المواطن الفرنسي أو الإيطالي أو الإنجليزي أو حتى الأمريكي -متوقع قريباً- زيارة والدته العجوز أو يذهب لرعاية طفله من مطلقته أو للحديقة العامة أو يزور عيادة أو يغشى ملهاه الليلي إلا بإذن من السلطات المحلية، إنه لحدث جلل دفعهم لقبول ما يحدث. من تصور يوماً أن يخرج رؤساء وزراء فرنسا «جون ماكرون»، وإيطاليا «جوزيبي كونتي» ومثلهم بريطانيا وإسبانيا، معلنين للعامة أحكام الطوارئ وتقييد حرياتهم الشخصية، دون أن تمر عبر القنوات التشريعية أو يتم التصويت عليها، وهي قرارات أكثر حدة من إعلان حالة الحرب، ويتقبلها الشارع الأوروبي بل ويلوم سلطات بلاده لأنها تأخرت كثيراً في تفعيل الإجراءات الاحترازية، وهي كما نعرف «القيم» التي لطالما تغنى بها الغرب وبنى مشروعيته على حمايتها والرفع من شأنها. دعونا نأخذ بعض تلك الإجراءات ونرى عمقها في أدبيات الحريات، بل هي أركان ومبادئ وقيم الجمهوريات الغربية التي قامت بعد انقلابها على الدول الملكية أو تحررت من احتلال خارجي وحاولت نشرها في العالم وأصبحت ميزان علاقاتها وأسلوب ابتزازها للدول الأخرى. أولاً: منع التجمعات واللقاءات وارتياد المقاهي والمطاعم والأماكن العامة. ثانياً: إلغاء الانتخابات البلدية أو حتى الرئاسية وما في حكمها في بعض الدول (فرنسا وإيطاليا، وأمريكا في بعض ولاياتها). ثالثاً: استرجاع الحكومات الغربية لدورها الحقيقي بأن تكون مصدر السلطات وليس المواطنين -وممثليهم في البرلمان- كما كان سابقاً. هل اقتنع الغرب بتخليه طواعية عن تلك الحقوق -ولو مؤقتاً- بفكرة وجود خيارات أخرى للحكم غير خيار الأحزاب المتصارعة التي لم تجلب لهم حياة أفضل، بل إن يكون هو من يطالب حكوماته فرض الطوارئ والإجراءات الاحترازية وتطبيق العقوبات على المخترقين، لقد آمن الأوروبيون اليوم بنظرية «خَرق السفينة» التي توجب الأخذ على أيدي السفهاء من أجل مصلحة الوطن والجماعة، إنهم في نهاية الأمر بشر تحكمهم القوانين وتردعهم العقوبات. في العام 2012 غرد الشيخ عبدالله بن زايد وزير خارجية الإمارات بالتالي: «الناس کاﻷمواج إن سايرتهم أغرقوك، وإن عارضتهم أتعبوك وإن خدمتهم جادلوك، فخذهم إلى مستقبلهم بالسلاسل، فيشكروك»، كان الوطن العربي حينها يمر بجاحئة كبرى هي وباء «الربيع العربي»، كان يعلم هو وكل من وقف في وجه تلك الجائحة أنهم لو طاوعوا الناس وسمحوا لهم بالاندفاع وراء عواطفهم ولم يلزموهم بقوة القانون لغرقوا وغرقت أوطانهم، كما حصل في سوريا وليبيا واليمن والعراق. بالطبع لم يكن يقصد الشيخ عبدالله تكبيل الناس وجرهم في الشوارع، لكن ما قصده: أن بعض الأحداث قد تجبر الدول للوصول إلى فرض قوتها وبسط حزم يشبه جرهم بالسلاسل إلى بر الأمان، لأن الثقافة الجمعية في العادة لا تستجيب للسلطة، وتأنس للحركة والحرية والتخلي عن القيود وهو ما يفعله البشر عادة في الخفاء. وكعادة الغرب ومقاوليهم في المنطقة من فلول اليسار العربي إلى الأحزاب والتنظيمات الدينية، أججت الشارع وفجرت كلماته وحولتها إلى سهام ضد فكرة الدولة الوطنية المسؤولة. السؤال: هل تبشر الإجراءات الحالية في الغرب باندثار فكرة الحكم عبر الوسائل الانتخابية أو ما يسمى بالديموقراطية حسب المقاس الغربي، وهل ستقتنع الشعوب الغربية بفكرة الدول الملكية أو الوطنية التي تبني الأوطان بدلاً من الانجرار وراء الأحزاب المتقاتلة التي لا هم لها إلا إرضاء الناخبين ورشوتهم من أجل تحقيق الفوز في صناديق الاقتراع، الأمر الذي دمر اقتصاد أوروبا حتى حولها إلى قارة عجوز، ما يحصل اليوم أقرب ما يكون لإطلاق رصاصة الرحمة على القارة العجوز لعل يخرج من صلبها دول أكثر شباباً وحيوية. نقلا عن عكاظ
مشاركة :