بعد مخاض عسير استمر نحو أربعة أشهر، تمكنت تونس أخيراً من الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة إلياس الفخفاخ، وحصولها على ثقة مجلس نواب الشعب. وتأتي تلك الحكومة بعد فترة طويلة من الغياب، حيث تُعد هي الثانية التي تُعرض على البرلمان لنيل الثقة، سبقتها حكومة الحبيب الجملي، مرشح حركة النهضة، التي لم تتمكن من نيل ثقة البرلمان في الـ10 من يناير الماضي، الأمر الذي أعاد العملية برمتها إلى المربع صفر. فوفقاً للدستور، أصبح من حق الرئيس التونسي، قيس سعيد، تكليف الشخصية التي يراها الأقدر على تشكيل الحكومة، بعيداً عن حزب الأكثرية. والفخفاخ هو ثامن رئيس وزراء لتونس بعد 2011، حيث خلف يوسف الشاهد، الذي شغل المنصب منذ أغسطس 2016. ويسعى هذا التحليل لاستعراض التحديات التي تواجه تشكيل الحكومة الجديدة. سياقات تشكيل الحكومة لم يكن الوصول إلى صيغة تشكيل الحكومة الحالية من البساطة بأي حال من الأحوال، حيث جاءت في سياق معقد يمكن الإشارة إليه فيما يلي: إخفاق حكومة الجملي جاء اختيار الفخفاخ في لحظة حاسمة من تاريخ الدولة التونسية، فقد فشلت حكومة الحبيب الجملي، الذي تم ترشيحه من قبل حركة النهضة باعتبارها حزب الأكثرية، في الحصول على ثقة البرلمان، وذلك بسبب حالة الاستقطاب، ومحاولات السيطرة التي سعت من خلالها الحركة لفرض عناصرها على التشكيل الحكومي، الأمر الذي انتهى بفشل التوافق مع الأحزاب، وإسقاط حكومة الجملي، ومن ثم انتقلت - وفقاً للدستور - صلاحية اختيار المكلف بتشكيل الحكومة بالتشاور مع الأحزاب إلى الرئيس قيس سعيد. وانتهت تلك المشاورات بإعلان الرئيس التونسي، في 20 يناير الماضي، تكليف الفخفاخ بمهمة تشكيل الحكومة، الأمر الذي أثار حالة من الجدل بين الأحزاب، ففي الوقت الذي رأى فيه عدد من الأحزاب - على رأسها حزبا «الكتلة الديمقراطية»، و«تحيا تونس»، اللذان اقترحا اسمه - أنه يُعد شخصية ذات خبرة إدارية واقتصادية، وله تاريخ معروف، إلا أن آخرين رأوا أنّه ينتمي إلى حزب غير ممثَّل بأي مقعد في البرلمان، وهو حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات، وأن بعض الشخصيات الأخرى التي اقترحتها الأحزاب كانت ستحظى بدعم أوسع يُمكّنها من الحصول على ثقة البرلمان بسهولة أكبر. أسس تشكيل الحكومة ففي حين أعلن الفخفاخ بمجرد تكليفه بتشكيل الحكومة، أن حكومته ستفتح المجال لأوسع حزام سياسي ممكن، بعيداً عن أي إقصاء أو محاصصة حزبية، مع الوفاء بتوجه الأغلبية الذي عبّر عنه التونسيون في انتخابات مجلس نواب الشعب، فإن المشاورات التي جرت بعد ذلك شملت إقصاء حزب أساسي، وهو «قلب تونس»، وهو ثاني أكبر حزب في البرلمان، الأمر الذي استغلته «النهضة» في ما بعد للتلويح بعدم منح الثقة لحكومة الفخفاخ، بسبب عدم التزامها باحترام تمثيل أحزاب الأكثرية في البرلمان، كما أنه خلق مناخاً لإثارة التأويلات حول أسباب ذلك الاستبعاد، وربطه بالرغبة في اختيار تحالفه السياسي من الأحزاب التي قامت بالتصويت لمصلحة الرئيس قيس سعيد، بل ومحاولة تأليب القواعد الشعبية الداعمة لتلك الأحزاب، باعتبار أن استبعادها من التشكيل الحكومي هو إغفال لأصواتهم الانتخابية. تجاوز المأزق الدستوري يمكن القول إن التوافق الذي حدث جاء مدفوعاً برغبة جميع الأطراف في تفادي المأزق الدستوري، حيث إنه كان مقرراً في حال فشل حكومة الفخفاخ في الحصول على ثقة البرلمان، أن يقوم الرئيس التونسي بحل البرلمان، والدعوة لإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وهو ما هدد به الرئيس سعيد فعلياً، الأمر الذي دفع إلى تدخل قادة النقابات وقطاع الأعمال التونسيين، حيث نظموا مجموعة من اللقاءات الدبلوماسية المكوكية، في محاولة لحث الأحزاب المتنافسة على الوصول إلى حل وسط بما يدعم استقرار الدولة التونسية، ويوفر عليها كلفة الدخول في انتخابات جديدة. محاولات عرقلة التشكيل حيث سعت حركة النهضة، من خلال إجراءات عدة، لنسج خيوط تشابكات تستهدف من خلالها عرقلة مسألة تشكيل الحكومة الجديدة. فقبل أيام من طرح حكومة الفخفاخ نفسها على البرلمان للحصول على ثقته، أقدمت حركة النهضة على طرح إمكانية سحب الثقة من رئيس حكومة تصريف الأعمال يوسف الشاهد، مستغلة في ذلك محاولة تأويل النص الدستوري في الفصل 89، المتعلق بتشكيل الحكومة في ظل عدم وجود محكمة دستورية تكون هي المرجع، إلا أن البعض اعتبروا تلك المحاولة بمثابة مناورة سياسية لسحب الثقة من الشاهد، واختيار بديل له من جانب الحركة، وذلك في محاولة لوقف توجه الرئيس سعيد بحل المجلس، في حال غلق جميع الأبواب أمام الفخفاخ، إلا أن رد فعل الرئيس التونسي قيس سعيد جاء حاسماً. وأكد أن «المناورات تحت عباءة الدستور لا يمكن أن تمر»، وأنه سيقف حجر عثرة أمام المؤامرات التي تقودها بعض الأطراف السياسية. حيث إن تلك الخطوة المقترحة من قبل «النهضة» غير دستورية، نتيجة لأن حكومة الشاهد كانت حكومة تصريف أعمال، ومن ثم فهي لا تستمد شرعيتها من البرلمان الحالي، كما أنها تُعبّر عن حالة من توازي الإجراءات في ظل المشاورات الختامية لحكومة الفخفاخ. وتزامن مع ما سبق إعلان حركة النهضة انسحابها من تشكيل حكومة الفخفاخ، وهو الأمر الذي كان يعني بوضوح تعثر عمليات تشكيل الفريق الوزاري، حيث جاء ذلك الانسحاب كرد فعل من الحركة على عدم ضم «قلب تونس» إلى الحكومة، والخلافات حول بعض المناصب الوزارية، إلا أنه سرعان ما تراجعت الحركة عن هذا التهديد. مناورات حزب النهضة فبعد أن هددت حركة النهضة بعدم التصويت للحكومة الجديدة في حال عدم مشاركة حزب «قلب تونس» فيها، وفي ظل فشل محاولتها لعرقلة تشكيل الحكومة وطرح بديل دستوري آخر، رضخت الحركة أخيراً لإملاءات الواقع، وقبلت بحكومة الفخفاخ كما هي خالية من الحزب الليبرالي، ومن ثمّ، يُعد دخول «النهضة» لحكومة الفخفاخ دون الحصول على شروطها المتمثلة في مشاركة حزب «قلب تونس»، والحصول على الوزارات السيادية، هو من قبيل إغلاق الطريق أمام فرضية حل البرلمان، وما يعنيه ذلك من الحفاظ على مكانة رئيسها «الغنوشي» على رأس البرلمان، مع استمرار البحث عن وسائل أخرى لفرض إرادتها. تحديات حكومة الفخفاخ تواجه حكومة الفخفاخ الجديدة عدداً من التحديات التي يمكن الإشارة إليها فيما يلي: هشاشة الظهير الحزبي حيث يرى كثيرون أن تلك الحكومة ذات تناقضات حادة، لتشكُّلها من أعضاء ينتمون لأحزاب يسارية وليبرالية وإسلامية، إضافة إلى المستقلين، ومن ثم فإنهم يمتلكون أيديولوجيات ورؤى مختلفة، كما أن درجة الثقة بينهم ضئيلة، خصوصاً بين «التيار الديمقراطي» وحركة «الشعب» و«تحيا تونس» من جهة، و«النهضة» من جهة أخرى، وهو ما عبّرت عنه حركة الشعب صراحة بتصريحها بأن «الالتقاء مع حركة النهضة في حكومة واحدة لا يعني التحالف السياسي، والالتقاء على أرضية فكرية واحدة، الأمر الذي سيجعل من عمل الحكومة الجديدة أمراً صعباً وشديد التعقيد». ويجد المتفحص لتشكيلة الحكومة الجديدة أنها جلبت أحزاباً من أطياف سياسية مختلفة، مُنحت فيها الحقائب السيادية لشخصيات مستقلة، فيما جرى توزيع بقية الوزارات بين التكنوقراط والأحزاب، لذلك فإن الأضلاع المكونة للحكومة لا تبشر بانسجام حكومي وتوافقات قادرة على الاستمرار. كما أن انتماء الفخفاخ لحزب التكتل الديمقراطي الذي لا يمتلك أي مقعد في البرلمان، ثم إعلانه في وقت لاحق عن استقالته من كل المسؤوليات الحزبية بالحزب، يترك رئيس الوزراء الجديد في حالة من غياب الدعم الحزبي اللازم داخل البرلمان، الأمر الذي من المتوقع أن تنعكس آثاره على مسار الحكومة الجديدة. التحالفات الحزبية المضادة على الرغم من موافقة حزب النهضة على الانضمام لحكومة الفخفاخ، إلا أنها موافقة مؤقتة، وجاءت استجابة للحظة الراهنة التي استدعت تجاوز الأمر تجنباً لحل المجلس وإجراء انتخابات مبكرة. غير أن من المتوقع أن تضغط «النهضة» على الحكومة الجديدة، مستغلة في ذلك سيطرتها على عدد لا بأس به من المقاعد في البرلمان. وإذا أضفنا إلى ذلك أن حزب «قلب تونس»، وهو ثاني أكبر حزب في المجلس، قد تم تغييبه عن التشكيل الحالي للحكومة، فإن ذلك سيدفعه إلى تزعم قوى المعارضة، والبحث عن خارطة تحالفات جديدة، قد تضم كلاً من: الحزب الدستوري الحر (17 مقعداً)، وكتلة الإصلاح (15 مقعداً)، الأمر الذي ستنعكس آثاره بشكل كبير على قدرة الحكومة الجديدة على تمرير خططها. التحدي الاقتصادي - الاجتماعي أعلن الفخفاخ أن الحكومة الجديدة تضع في مقدمة أولوياتها التصدي للجريمة، والإرهاب، ومكافحة ارتفاع الأسعار، والفقر، والفساد، وإنعاش الاقتصاد. وقد عبّر عن ذلك من خلال طرح سبع أولويات اقتصادية واجتماعية رئيسة لتتصدر خطة عمل حكومته، حيث تهدف تلك الأولويات بشكل أساسي إلى معالجة أوجه القصور التي تعتري القطاعات الاقتصادية، في ظل عِظم التحديات التي يواجهها الاقتصاد بعد سنوات من تدني معدلات النمو، وارتفاع معدلات البطالة، والعجز الحكومي، وتراكم الديون المتزايدة، وارتفاع معدلات التضخم، وتدهور الخدمات العامة. وستعمد الحكومة إلى التعامل مع ملف الاحتكار الاقتصادي. أما الأولوية الثانية، فتشمل تقديم الدعم العاجل للمؤسسات التي تشكل ركيزة الاقتصاد التونسي. حكومة إنقاذ عاجلة حيث يحتاج الاقتصاد التونسي إلى حكومة إنقاذ عاجلة في ظل بطء الحركة العامة للاقتصاد التونسي. وفي حين حسّنت وكالة التصنيف الدولية (موديز) من تصنيف تونس السيادي من «سلبي» إلى «مستقر»، مع الإبقاء عليه في مستوى «B2»، إلا أنها أوضحت أنّه رغم نجاح السياسات في مجال دعم الميزانية واستقرار الأسعار، فإنّ الهشاشة الخارجية لاتزال مهمة، وذلك نتيجة لتراكم الديون، كما أن معدلات النّمو لاتزال غير كافية لتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إلى جانب المخاطر الاجتماعية والبيئية التي تواجهها تونس. تأمين الموارد المالية ستحتاج الحكومة الجديدة أيضاً إلى تأمين تمويل خارجي جديد بقيمة ثلاثة مليارات دولار بعد انتهاء برنامج قروض صندوق النقد الدولي الذي انطلق في 2016، مع عدم وجود دعم جديد متفق عليه بعد أبريل 2020. الأمر الذي يجعل أمام الحكومة الجديدة طريقاً صعباً لخوض طريق المفاوضات مرة أخرى، واستئناف الحوار مع المانحين الدوليين، وأولهم صندوق النقد الدولي ذاته في سبيل الحصول على دعم مالي. ارتفاع سقف التوقعات إن طول الفترة الانتقالية التي استغرقتها عملية تشكيل الحكومة الجديدة، قد أدى إلى تراكم توقعات الشارع التونسي، سواء من الرئيس أو الحكومة الجديدة، بأن يسهم كل منهما في معالجة العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها البلاد، وهو الأمر الذي ينبغي أن تهتم له القوى السياسية، إذ إن المراهنة على الصبر الشعبي قد لا تكون في محلها. عمق الازمة يُمكن القول إن تعثر طريق تشكل الحكومات التونسية في أعقاب انتخابات أكتوبر 2019، ما هو إلا انعكاس لعمق الأزمة السياسية التي تواجهها تونس في ظل ما أسفرت عنه الانتخابات من مجلس يضم مجموعة من الأحزاب المنقسمة على ذاتها، وغياب حزب أو توجه سياسي بعينه يملك الأكثرية التي تمكّنه من إدارة دفة الأمور. - انتماء الفخفاخ لحزب التكتل الديمقراطي الذي لا يمتلك أي مقعد في البرلمان، ثم إعلانه في وقت لاحق عن استقالته من جميع المسؤوليات الحزبية بالحزب، يترك رئيس الوزراء الجديد في حالة من غياب الدعم الحزبي اللازم داخل البرلمان، الأمر الذي من المتوقع أن تنعكس آثاره على مسار الحكومة الجديدة. - طول الفترة الانتقالية التي استغرقتها عملية تشكيل الحكومة الجديدة أدى إلى تراكم توقعات الشارع التونسي، سواء من الرئيس أو الحكومة الجديدة، بأن يسهم كل منهما في معالجة العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجهها البلاد، وهو الأمر الذي ينبغي أن تهتم له القوى السياسية، إذ إن المراهنة على الصبر الشعبي قد لا تكون في محلها.ShareطباعةفيسبوكتويترلينكدينPin Interestجوجل +Whats App
مشاركة :