إنّ الأمانة العلمية تقتضي ذكر الحقائق التاريخية كما هي بعيدًا عن الانتقائية، وكون المؤرخ، أو معد المنهج الدراسي رجلًا فذلك لا يُعطيه حق التعتيم على دور المرأة في حركة التاريخ، وما تحققه من إنجازات في مختلف المجالات، وكأنّها ذاك المخلوق الذي خُلق لمتعة الرجل وخدمته، الخاضع الخانع له، الذي لا يحق له أن يخرج من بيته إلّا بإذن الرجل، ولا يتعلم ولا يعمل إلّا بموافقته، وله حق تأديبها وضربها، هذا ما يُدرّسه معدو المناهج الدينية الدراسية لأولادنا وبناتنا، تغييب إسهامات المرأة في الحضارة الإسلامية في مناهج التاريخ، بل نجدهم تجاهلوا حتى أدوار أمهات المؤمنين والصحابيات الجليلات رضوان الله عليهن في العهديْن النبوي والراشدي ، وقد بيّنتُ في مقالات سابقة بعض ما أسهمت به بعض الصحابيات (رضي الله عنهن) في بناء الدولة والحضارة الإسلامية في العهديْن النبوي والراشدي، فممّا يحزّ في النفس ويؤلمها أنّك في مهد الإسلام لا تدرس في التاريخ شيئًا عن إسهامات وإنجازات النساء المسلمات في مختلف العصور الإسلامية؛ لذا رأيتُ أن أقدم لمعدي مناهج التاريخ بعضًا من هذه الإنجازات علّهم يُراجعون أنفسهم فيما ما كتبوه، فيلتزمون بالحيدة والموضوعية بعيدًا عن الانحياز لبني جنسهم. في مجال القتال والمشاركة في الحروب: خولة بنت الأزور الكندي: من ربَّات الشجاعة والفروسية خرجت مع أخيها ضِرار بن الأزور إلى الشام وأظهرت في الوقعات التي دارت رحاها بين العرب والروم، بسالة فائقة خلّد التاريخ اسمها في سجل الأبطال البواسل، وعندما أسر الروم أخاها ضرارًا أخذت تقاتل الروم كأشجع الفرسان، وكانت تضع لثامًا، وظنّها البعض خالد بن الوليد. ومن وقعاتها الشهيرة أيضًا التي أظهرت فيها بسالة عظيمة وفروسية نادرة وقعة (صجورا) من أعمال الشام، وقد أُسِرت النسوة في تلك الوقعة، وكانت هي من ضمن المأسورات فقالت لهن: «فلنأخذ أعمدة الخيام وأوتاد الأطناب ونحمل بها على هؤلاء اللئام، فلعل الله ينصرنا عليهم»، وتناولت كل واحدة منهن عمودًا من أعمدة الخيام وصِحْنَ صيحةً واحدة، فقالت لهن خولة: «لا ينفك بعضكن عن بعض، وكنَّ كالحلقة ولا تفترقن فتملكن فيقع بكن التشتيت وحطِّمن رماح القوم واكسرن سيوفهم، وهجمت خولة وهجمت النساء وراءها وقاتلن قتالًا شديدًا حتى استخلصت النسوة من أيدي الروم، وتوفيت خولة في خلافة عثمان رضي الله عنه. [البلاذري: فتوح الشام] في المجال السياسي: أم سلمة بنت يعقوب بن عبد الله المخزومي زوجة أبي العبَّاس السفاح مؤسس الدولة العباسية، وهي سيدة جليلة ذات عقل وحزم، وكان الخليفة أبو العبَّاس لا يقطع أمرًا إلاَّ بمشورتها. صبيحة ملكة قرطبة: هي من ربات النفوذ والسلطان والإدارة والسياسة، كانت تدير شؤون بلادها مستعينة بعثمان بن جعفر المصحفي، وكان كاتبها الخاص محمد بن أبي عامر يحرر أوامرها ويقوم بتبليغها إلى مختلف الجهات، ثمَّ عينته مديرًا عامًا على الأملاك والضياع حوالي سنة 356هـ [أعلام النساء: عمر رضا كحَّالة 2/323 نقلًا عن شهيرات النساء في العالم الإسلامي للأميرة قدرية حسين]. السيدة بنت المنصور بن يوسف الصنهاجي، وكنيتها «أم ملال»: وهي من ربات النفوذ والسلطان والعقل والرأي، والدها صاحب إفريقية، وترَّبت تربية عالية، واقتطفت من الأدب والعلم حتى فاقت أخاها نصير الدولة باديس فأشركها في تدبير أمر الملك، وأخذ برأيها في سياسة الدولة، وعندما توفي أخوها بويع ابنه المعز، وهو لم يبلغ يومئذ التاسعة من عمره وتسلَّم الإمارة سنة 406هـ، وبإجماع عظماء صنهاجة ومشيخة القطر وأمراء الجند والفقهاء والعلماء أقاموا عمته أم ملال وصية عليه إلى أن يبلغ سن الرشد. وتولت أم ملال شؤون المُلك بحسن وتدبير ورأي ثاقب واستمرت على ذلك إلى أن بلغ محجورها سن الرشد وتأهل لاستلام أزِمَّة الحكم. [أعلام النساء لعمر رضا كحالة 2/287.] ومن الأندلس والمغرب العربي ننتقل إلى الجزيرة العربية إلى اليمن، فها هي الأدُرُ الكريمة جهة الطواشي شهاب الدين صلاح: من ربات البر والصلاح والعقل والحزم والحلم والسياسة، تولت الحكم لما غاب ولدها السلطان الملك المجاهد في مصر أربعة عشر شهراً فضبطت البلاد وعمَّ العدل والإحسان والأمن، وكانت تحب العلماء والصلحاء وتكرمهم وتجلهم، وكانت تدور على بيوت الناس تتفقدهم بالعطايا الوافرة، ومن مآثرها الكثير من المساجد والمدارس في مدينة زبيدة وتعز وغيرهما وتوفيت سنة 762هـ. [المرجع السابق،1/5 نقلًا عن العقود اللؤلؤية للخزرجي]
مشاركة :