بنجامين ماكينالي كانتورهو كاتب، وصحفي، وكاتب سيناريو، وكاتب للأطفال، وروائي أمريكي ولد عام 1904. كتب أكثر من ثلاثين رواية، تنوعت أعماله الشهيرة بين روايات عاطفية مثل رواية (المجد لي)، وقصص الجريمة مثل (بندقية مجنون) اللتين تم تحويلهما إلى أفلام سينمائية ناجحة. حاز جوائز منها جائزة بوليتزر عن فئة الأعمال الخيالية لروايته (أندرسنوفيل) التي حكت عن يوميات مجموعة من المساجين، كما عالجت بعض رواياته مواضيع تاريخية كالحرب الأهلية الأمريكية. توفي عام 1977 بنوبة قلبية في منزله في فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية.هم الشحاذ بعبور الشارع في نفس اللحظة التي غادر فيها السيد بارسونز الفندق. كان شحاذا أعمى، يحمل رزمة من قصب السكر، ويتعثر في خطاه وهو يحاول المشي بحذر شديد كحال فاقدي البصر. كان رجلا أشعثا، عريض العنق، يرتدي معطفا متسخا حول الأطراف والجيوب. كانت يداه متشبثتان بالرزمة بطريقة عقيمة، وكأن القصب يكاد يسقط منه، وكان أيضا يحمل كيسا أسود يتدلى من كتفه. لقد بدا هذا الشحاذ وكأنه يريد أن يقول شيئا ما.كان الجو جميلا فهو موسم الربيع، وانعكست أشعة الشمس الذهبية على الشارع. وقف السيد بارسونز أمام فندقه وقد لاحظ مشي الشحاذ المتعثر، وأحس بالشفقة فعلا على كل عديمي البصر. جال السيد بارسونز بخاطره، كم هو محظوظ لكونه حيا يرزق، قبل سنوات عدة لم يكن سوى عامل ماهر، أما الآن فقد أصبح ناجحا ومحط إعجاب الكثيرين. التأمين. هذه هي مهنته الآن. لقد أنجز كل شيء في حياته بمفرده من دون سند من أحد، مقاوما الإعاقات التي اشتكى منها سابقا، وهو الآن لا يزال شابا مقبلا على الحياة. راح يستنشق الهواء المنعش الذي ملأه بالرغبة في العيش. وعندما بدأ يحث الخطى مر بجانبه الرجل الأعمى. التفت الرجل الأشعث نحوه قائلا:- «اسمع يا حضرة المحافظ، هل لي بدقيقة من وقتك؟».قال السيد بارسونز:- «المعذرة، لقد تأخر الوقت ولدي موعد، هل تسمح لي أن أعطيك شيئا؟».- «أنا لست شحاذا يا حضرة المحافظ! أؤكد لك هذا ! ولكن لدي تذكارات جميلة أقوم ببيعها».ودس شيئا في يد السيد بارسونز. - «دولار واحد، لأفضل قداحة سجائر».وقف السيد بارسونز وقد بدا منزعجا ومحرجا. كان رجلا وسيما يرتدي بدلة رمادية فخمة، ويضع قبعة رمادية، ممسكا بعصا بدت كالصولجان في يده. بالطبع لم يكن البائع الأعمى قادرا على رؤية كل هذا. - «ولكني لا أدخن»، قال السيد بارسونز. - «اسمع! أراهن أنك تعرف الكثيرين من المدخنين، هدية صغيرة حلوة» همس متملقا «يا سيدي، أنت لن تمانع أن تساعد رجلا فقيرا»، ووضع يده على كتف السيد بارسونز. تنهد السيد بارسونز، ثم أخرج دولارين من جيبه ودسهم في يد البائع. - «بالطبع سأساعدك، كما قلت أستطيع أن أهديها لشخص ما، ربما عامل المصعد». تردد السيد بارسونز قليلا. لم يكن يريد ان يبدو فظا أو متطفلا حتى مع بائع متجول أعمى. - «هل فقدت بصرك بالكامل؟».دس الرجل الرث الدولارين في جيب معطفه وقال:- «منذ أربعة عشر عاما يا حضرة المحافظ».ثم أردف بفخر فيه لمسة جنون:- «ويستبري يا سيدي، لقد كنت واحدًا منهم». - «ويستبري؟»، ردد السيد بارسونز، «أوه! الانفجار الكيميائي..!»، لقد توقفت الصحف عن ذكره منذ.....- «لقد نساه الكل، وكأنني أستطيع أن أخبرك أيها المحافظ أن الرجل الذي عاش هذا الحدث لن يستطيع محوه من ذاكرته، كان آخر شيء رأيته هو المستودع وهو ينهار أمام ناظري والغاز السام يتسلل من النوافذ المتهشمة».سعل السيد بارسونز ولكن البائع الأعمى كان مصمما على مواصلة سرد ذكراه، آملا أن تكون هناك دولارات إضافية في جيب السيد بارسونز.- «فقط فكر بهذا يا حضرة المحافظ! مائة وثمانية قتيل، وقرابة مائتي جريح، خمسون منهم فقدوا بصرهم وأصبحوا عميانا كخفافيش». وتقدم وهو يضع كلتا يديه القذرتين على معطف السيد بارسونز وهو يواصل التحدث:- «لم يكن هناك شيء أسوأ من هذا، لو كنت قد فقدت بصري في الحرب كانوا سيعتنون بي، لكني مجرد عامل حقير، لقد أصبت بالعمى بحق الجحيم، عندما كان الرأسماليون يكنزون ثرواتهم، كان لديهم بوليصات تأمين».- «تأمين، نعم هذه هي مهنتي».- «هل تريد أن تعرف كيف فقدت بصري»؟ قال البائع وهو يبكي مستطردا، وكانت كلماته درامية وكأنه قد اعتاد على سرد قصته للحصول على مال: - «كنت في المستودع أثناء انهياره، وكان العمال يتدافعون للهرب والخروج، كانت هناك فرجة أمل لي حتى مع كل البنايات التي تتهاوى يمنة ويسرة. لقد نجا الكثيرون بجلدهم، وكنت أزحف متوجها إلى المخرج، عندما قبض عامل زميل لي -كان خلفي- علة قدمي قائلا: - «دعني أمر!» ثم مشى فوقي، كان ضخما، وتمكن من الخروج، وبقيت أنا منبطحا مع اللهب، والغازات السامة تنهشني من كل صوب، لقد سامحت هذا الزميل من أعماق قلبي».صمت قليلا ليبتلع ريقه ثم أردف:- «هذه هي قصتي أيها المحافظ»هبت عليهما رياح الربيع الرطبة المرتعشة. - «ليس صحيحا». قال السيد بارسونز. - «ليس صحيحا ؟، ماذا تعني؟».- «القصة حقيقية»، قال السيد بارسونز، «مع فارق أن نهايتها كانت معكوسة».- «معكوسة؟!»- «لقد كنت أنا في المستودع»، قال السيد بارسونز. - «وقد حدث الأمر بالعكس، كنت أنت من مسك بقدمي ومشى فوقي، لقد كنت أضخم مني يا مارك واردت».تجمد الرجل الأعمى فترة ليست بالقصيرة. ثم قال بصوت مرتجف:- «بارسونز..؟!»، «بحق الرب ! بحق الرب ! لقد ظننت أنك قد....»، ثم أخذ يصرخ بغضب: - «نعم..! لربما كان الأمر كذلك! لربما!.. ولكنني الآن أعمى..! أعمى..! وأنت كنت واقفا هنا طوال الوقت تستمع إليّ وتضحك في سرك مستهزئا..! أنا أعمى..!»، توقف بعض المارة وأخذوا يحدقون فيه. «لقد نجوت أنت ! أما أنا فصرت أعمى! هل تسمعني؟ أنا.....».- «حسنا..»، قال السيد بارسونز، «لا داعي لافتعال ضجة بسبب هذا يا مارك واردت، فأنا أيضا أصبت بالعمى مثلك..».
مشاركة :