أوروبا عجوز وعيوبها كثيرة لكنها «ليست بالبؤس والتراجيديا التي يمكن تصورها

  • 6/12/2015
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

هب أن لدينا شابة قررت مغادرة قريتها نحو مدينة بعيدة، وذلك قصد العمل في مصنع لإنتاج علب السردين. هذه الفتاة، ستستفيد من حرية مضاعفة: الأولى، أنها ستتملص من قبضة الجماعة، أي حرية التستر عن أنظار رقابة من يعرفها سواء العائلة أو رجل الدين. أما الحرية الثانية، فتتمثل في الاستقلال المالي جراء ما ستحصل عليه من أجر مهما كان زهيدا. ADVERTISING إن هذا المثال الذي بدأت به هذا المقال، قد طرحه الفيلسوف المعاصر لوك فيري، صاحب كتاب سيكون عمدتنا فيما سنكتب وهو بعنوان: «ثورة الحب». وهو يقصد من وراء ذلك، أن المجتمع الرأسمالي الحديث قد اخترع لنا سوق الشغل بنظام الأجرة. وساهم هذا في اقتلاع الأفراد من قراهم والخروج من وصاية الجماعة نحو الفردانية والاستقلالية الكاملة. وبالعودة إلى فتاتنا الشابة، فإنها ستكون قادرة - ولو جزئيا - على تحديد مصيرها بيدها. ومع الوقت، ستكون قادرة على الانعتاق من قبضة الالتزامات الجماعية، وبالتأكيد لن تقبل بما يسمى «زواج العقل» أو الزواج الذي ترتبه العائلة، بل ستختار الزواج بشاب تميل إليه، أي زواج الحب. إذن بحسب لوك فيري، كانت الرأسمالية الحديثة سببا في انطلاق ثورة هادئة يسميها «ثورة الحب»، فما هي ملامح هذه الثورة؟ إن كتاب «ثورة الحب»، يأتي في سياق الأمل في العثور على علامات هادية إلى المعنى. فالإحساس العام بحسب لوك فيري، يتجه نحو أن البشرية في ظل العولمة تسير بشكل أعمى، وكأن مصير الإنسان ينفلت من يده، خصوصا وأن السير الكبرى أو المثل التقليدية، سواء الدينية أو الوطنية أو الثورية، قد تعرضت لعملية تقويض وهدم جعلها تفقد بريقها، ومن ثم قوتها وإقناعها - على الأقل في أرووبا - وهو ما يؤكد عليه لوك فيري بشدة. ولشرح ذلك، يقسم لوك فيري العولمة إلى مرحلتين سنعمل على إيضاحهما قبل الذهاب إلى خلاص الحب الذي يراه: * المرحلة الأولى وهي تلك المرتبطة بمشروع الأنوار، أي المرتبطة بالعقل العلمي وآيديولوجيا التقدم التي بدأت ملامحها في القرن السابع عشر، مع لحظة الفيلسوف ديكارت الذي نشر فكرة العقل الموضوعي عالميا، بعبارته المشهورة: «العقل هو أعدل قسمة بين الناس». كما ارتبطت هذه العولمة الأولى، بآيديولوجيا التقدم والتوق إلى الحرية وإلى رفاهية البشرية، ومن ثم السعادة. لكن مشروع الأنوار هذا، وصل إلى عالم تقني يتحرك بطريقة عمياء ودون غاية إنسانية واضحة، اللهم إلا التجديد الدائم والعمل على النمو الاقتصادي. فتحول بذلك العقل الموضوعي الديكارتي إلى عقل أداتي. وهو ما تنبهت له مدرسة فرانكفورت مع هوركايمر وأدورنو.. وهو ما سيدخل البشرية في المرحلة الثانية من العولمة. * المرحلة الثانية وهي مرحلة نشطت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث دخلت البشرية في منطق حمى المنافسة المعممة وبتزاحم شديد وفي كل الاتجاهات: تنافس بين المؤسسات، بين البلدان، بين الثقافات، بين الجامعات والمختبرات. الأمر الذي جعل حركة التاريخ لا تتجه نحو صناعة عالم أفضل ينشد الحرية والسعادة، كما حلم بذلك الأنواريون وبتفاؤل شديد، بل أصبح المحرك هو منطق البقاء والتكيف والعمل على التجديد الدائم كي لا يندثر الفاعلون. فالأمر أصبح أشبه بما يحصل في الانتقاء الطبيعي لدى داروين. فالذي لا يتكيف محكوم عليه بالزوال. فالمؤسسات في العولمة فائقة التقنية، لا هم لها إلا القدرة على المنافسة وخلق أكبر مردودية وإنتاجية ممكنة. والأمر ليس قصديا، بل هو قسري مدفوع إليه الإنسان دفعا وبصيغة المجهول، ولا أحد يستطيع الإفلات منه. وكأن هناك شيئا أقوى من الجميع، ويشتغل في خلسة من الكل، إلى درجة يصبح معها إنسان هذا العصر في لهاث وراء السراب، فلماذا سأزيد من الإنتاجية ولماذا أتسارع للتجديد؟ وهو ما وضحه الفيلسوف هايدغر حينما وضح أن واقع الحداثة بما هي عالم من التقنية، يتجه نحو طغيان الوسائل على حساب الغايات. إن صاحب المؤسسة في حاضرنا، ومن أجل البقاء يضطر إلى التجديد والعمل دون راحة، من أجل تحسين مردوديته بلا انقطاع. فلا مجال إلى أن يخسر السباق مع منافسيه. لكن وللأسف دون معرفة واضحة لماذا، ولا من أجل ماذا، إلى درجة يصبح معها الإنسان، بحسب الفيلسوف السابق نفسه هايدغر، مجرد «موظف التقنية». فالتجديد من أجل التجديد في الرأسمالية الحالية، أسس لمجتمع اللذة والاستهلاك الذي يتحرك بمنطق التسلية وليس البناء، منطق الوسيلة لا الغاية، منطق الحركة الدائبة دون بوصلة محددة المعالم. وهو الأمر الذي أقحم البشرية في متاهات اللامعنى، حيث تشكل لدينا أفراد منعزلون وغارقون في خيبات الأمل. وما سيزيد من تكريس هذا الوضع الدرامي، هو انتشار تلك الموجة العارمة التي صاحبت الرأسمالية والمتجسدة في عمليات التفكيك والهدم القاسية لمنظومة القيم القديمة، التي كانت تمتح من الدين أو الوطن أو الأفكار الثورية قوتها وصلاحيتها، مما يجعل الإنسانية في مأزق يتوجب إيجاد مخرج منه. * نحو إنسانية جديدة يقدم لوك فيري، نظرة جد متفائلة للحضارة الغربية. فهو يعلن القناعة التالية: إن أوروبا العجوز وعلى الرغم من كل عيوبها، هي ليست بالبؤس والتراجيديا التي يمكن تصورها. فهو جد متفائل، ويرى أن المعنى موجود، وهو الآن يتشكل ويتمثل في تنامي قوة المشاعر والحب الذي يؤكد أنه سيصبح الملاذ النهائي على الأقل في أوروبا، الأمر الذي ينبئ بميلاد نمط جديد من المقدس الذي أصبح يؤثر في الإنسانية كثورة هادئة لكن فعالة. فماذا يقصد لوك فيري بالمقدس؟ إنه لا يقصد ذلك المعنى الديني، بل يقصد به كل ما يمكن أن نضحي من أجله وأن نهب روحنا لصالحه. وإذا كانت دواعي التضحية التي كان الإنسان مستعدا للموت من أجلها ثلاثة، وهي: الموت من أجل الله، أو من أجل الوطن، أو من أجل الأفكار الثورية الكبرى، فإن هذا الأمر لم يعد مقنعا في أوروبا الحاضر. يقول لوك فيري: «فمن من شباب هذا الجيل الأوروبي مستعد لأن يموت من أجل الله، أو من أجل الوطن، أو من أجل الثورة؟ تقريبا لا أحد». يشير لوك فيري أنه نعم، هناك حقا من لا يزال يموت من أجل الله، وهناك كثير من المتعصبين لوطنيتهم، وأيضا ما زال كثير من الثوريين.. لكن الديمقراطيات العريقة قامت بإعادة النظر في كل القناعات القديمة التي أضفت المعنى على وجود الإنسان. فالمقدس لم يعد يتجسد في فكرة الكوني المتناغم اليوناني، ولا في الإلهي الديني، ولا في الوطنية، ولا في الأفكار الثورية، بل أصبح يتمثل في الحب المرتبط أساسا بظهور الأسرة الحديثة. إذ أصبح من الممكن التضحية بوجودنا من أجل كائنات بشرية بلحم ودم، وبالأساس أطفالنا. يقول لوك فيري: في القرون الوسطى الأوروبية كان موت طفل أقل خطورة من موت خنزير أو حصان. إن مسألة الحب وإضفاءه المعنى على الحياة لأمر معروف منذ القديم. لكن بالنسبة للوك فيري، فهو يرى أنه ولأول مرة في التاريخ، سيصبح مبدأ الحب رؤية جديدة للعالم. إنه الملجأ الحقيقي للمعنى الذي سينظم من جديد القيم التي تهالكت في الحضارة الأوروبية الحديثة. إنها ثورة كوبيرنيكية صامتة وشديدة العمق، الأمر الذي يدعو إلى إقامة سياسة جديدة يسميها لوك فيري: سياسة في الحب، وهي النظرية المقترحة من طرفه للتفكير في الأجيال الصاعدة. * نحو سياسة جديدة ينطلق لوك فيري من علماء البيئة، فهم الأوائل الذين طرحوا، جراء الهدر البيئي، سؤال: أي عالم سنتركه للأجيال الصاعدة؟ وقياسا على ذلك، سيقترح لوك فيري تعميم السؤال على كل أنواع السياسات، وذلك على الشكل التالي: أي عالم سنتركه لمن هم الأحب إلينا، أي أطفالنا، وبوجه أعم شبابنا؟ أي الإنسانية التي ستأتي بعدنا؟ تلك هي المسألة السياسية الجديدة. ولكي يعطي لمسة فلسفية على مقترحه هذا، قام لوك فيري بصياغة قانون الحب كأمر قطعي على الشاكلة الكانطية، وهو كالآتي: «افعل بحيث يمكن لفعلك أن يطبق على من هم الأحب إليك». وإذا ما طبقت هذه القاعدة على القرارات السياسية فإن الاختيارات بالطبع ستكون أكثر إيجابية. بالتأكيد في هذا الاقتراح نوع من المثالية. لكن لوك فيري يقول، إنها ستكون، على الأقل، مثالية أقل دموية من كل المثاليات التي اكتسحت أوروبا القرن العشرين. فإذا كان يوصف المتفائل بأنه هو ذلك السعيد الغبي، فإن لوك فيري يقول بأن المتشائم هو ذلك التعيس الغبي.

مشاركة :