سالَ حبرٌ كثيرٌ باللغة العربية، خلال الأيام الماضية، حول نتائج الانتخابات التركية. حصلَ هذا في منابر الصحافة العربية منها والتركية. وبغض النظر عن النتائج ذاتها، كانت هذه فرصةً أخرى لنتعرﱠفَ على أنفسنا كعرب. لِنَنظُرَ إلى المرآة التي تعكسُ واقعنا الثقافي ومناهجنا في التفكير والتحليل والتعامل مع ظواهر الحياة من حولنا. لا مجال للتعميم المطلق كما هو الحال دائما في مثل هذه الحالات، لكننا نتحدث عن ظاهرةٍ واضحة تغلب على المذكورة، وهي بالتالي تُعبر عن جانبٍ من جوانب الثقافة السائدة. يظهر من متابعة تلك الكتابات انقسامُ المعلقين والكتاب العرب إلى فريقين بشكلٍ ينطبق عليه قول الشاعر: وعينُ الرﱢضا عن كُلﱢ عيبٍ كليلةٌ كذاكَ وعينُ السُّخطُ تُبدي المَسَاويَ. يُدافع الفريق الأول عن (إيجابية) النتيجة، وأحيانا بشكلٍ مستميت. ويُبررها من خلال التركيز على بعض دلالاتها، مثل القول بأن الحزب فاز في النهاية بالمرتبة الأولى، وأن نسبة 41% عالية جدا بالمقاييس الأوربية، وأن نتائج الانتخابات كانت مصداقا لنزاهتها، وأن هذا كله يُحسبُ لحزب العدالة والتنمية، وليس عليه. كل هذا صحيحٌ بشكلٍ أو بآخر. ولو أن الطرح لا يقفُ عند هذه المقولات، لكان نوعا من النظر إلى (النصف المليء من الكوب). لكن أكثر الكتابات تقف فعلا عند تلك النقطة في التحليل. وهي بهذا تتجاهل حقيقة سياسية فارقة ستؤثر على حاضر تركيا ومستقبلها، وتتمثل ببساطة فيما يلي: إن الحزب، بساسته وإعلامييه ومُناصِريه، كان إلى ما قبل فترةٍ قصيرة من الانتخابات يتحدث عن احتمالات الحصول على أغلبية تُمكِّنه من تغيير الدستور.. أما الحديثُ عن حصوله على أصوات لن يتمكن معها من تشكيل الحكومة بمفرده، واحتمال اضطراره للتحالف مع أحزاب أخرى، فلم يكن واردا في أي تصريحٍ أو تحليلٍ أو مقالٍ أو دراسة.. هذا هو مربط الفرس كما يقولون، وذلك هو محورُ القضية التي تدل على أن ثمة أخطاء، وربما أخطاء كبرى، في الحسابات، يجب البحث عنها، بعيدا عن التركيز على القضايا الأخرى المذكورة أعلاه. وهذه الأخطاء لم تحصل فجأةً في بضعة أيام، وإنما تتعلق بقرارات وممارسات سياسية وإدارية وإعلامية حصلت بالتراكم، على الأقل على مدى العام أو العامين الأخيرين كما تُظهر المؤشرات. بالمقابل، تَظهر كتاباتُ وتعليقات فريق آخر من العرب وكأنها تتمحورُ حول هدفٍ واحدٍ ليس له ثانٍ: الشماتة بحزب العدالة والتنمية، وتحديدا بشخص الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. لا تبدو هذه الكتابات معنيةً بالتحليل والدراسة والحَفر الموضوعي في الظاهرة، ولا حتى في سلبياتها، وإنما هي مشاعرُ الشماتةُ والتشفي، وربما نوعٌ من لذة الانتقام! تُعبرُ عن نفسها بالعناوين والمصطلحات قبل المضمون، وكأن ثمة عداء شخصيا مباشرا وعميقا مع الرجل ومع الحزب. هنا أيضا، كان مقبولا اعتبارُ الأمر تنبيهاً إلى (النصف الفارغ من الكوب)، لولا أن المقولات تقف عند تلك النقطة ولا تتجاوزها. هكذا، يتعامل الفريقان مع ظاهرةٍ هامة تؤثر وستؤثر في حاضر العرب ومستقبلهم بمدخل العواطف والمشاعر، ومنطق الحب والكراهية، ويضيع في الزحام منطق العقل والتحري، بل ومنطق المصالح التي تحكم العلاقات بين الدول. منذ عقدين من الزمان، قال شاعر المنفى واصفا حال العرب: «مُتطرفونَ بِكُلﱢ حال.. إما الخلودُ أو الزﱠوال.. إما نَحومُ على العُلى.. أو نَنحني تحت النعال.. في حِقدِنا: أرجُ النسائمِ جيفةٌ.. وبِحُبنا: روثُ البهائمِ برتقال».. قد تكون الكلماتُ حادةً وواخزة وصريحةً بعض الشيء، لكن استمرار تعامل ثقافتنا مع ظواهر الحياة بهذه الطريقة إلى اليوم الراهن، ورغم كل المتغيرات، يُظهر أنها لا تزال محتاجةً، فيما يبدو، إلى مزيدٍ من الوخز الحاد والصراحة. waelmerza@hotmail.com
مشاركة :