تأتي محطات التغيير في التاريخ على أثر أحداث جلل، حروب أو أوبئة أو كوارث طبيعية، فكثير ما تودي مثل هذه الأحداث إلى تغيرات حياتية جوهرية أو شبه جوهرية. لم يتوقع الكثيرون في بداية الإعلان عن ظهور فايروس كورونا المستجد (COVID-19) في مدينة ووهان الصينية، مستوى انتشاره، الذي انتشر كما النار في الهشيم في كل أنحاء العالم ولم ينتهِ الأمر بعد، ولا نعلم إلى أين سيمضي بنا هذا الوباء اللعين. تعاملت بعض الدول بالتقدير الخاطئ للحدث فاستهانت أو تباطأت في مواجهته، ومن بينها دول متقدمة تمتلك أنظمة سياسية وإدارية وصحية متطورة وراقية. فلم يرأف بها هذا الوباء ولم يمنحها المساحة والوقت الكافيين لتدارك الأوضاع. نحن في البحرين كذلك تسلل إلينا هذا الوباء خفية، إلا أن حكومتنا وبسبب أنها تمتلك أنظمة، ولجان طوارئ مهيئة ومفعلة تعمل على أسس وإجراءات علمية متطورة في كيفية تشكيل الفرق المتخصصة للمواجهة الصحيحة، كانت في الموعد لهذا الامتحان، وحتى الآن سيطرتها واضحة على الوضع، ونأمل أن تستمر النتائج إيجابية حتى النصر على هذا المرض، وإن وخسائرنا على جميع الأصعدة أقل ما تكون. بلا شك انتشر هذا الوباء ليصبح وبائًا عالميًا، حتى أن منظمة الصحة العالمية أطلقت عليه مصطلح «غزو» فهو فعلاً قد غزا العالم أيما غزو، فأصبحنا في خضم تداعيات كارثية مدمرة على الأوضاع الصحية والاقتصادية والأمنية، والتي سترمي، بطبيعة حال هذه التداعيات، بظلالها على الأوضاع السياسية في الدول، قد تنهار أنظمة وتتغير حكومات، وتستجد سياسات. ونسأل الله رفع هذه الغمة عنا وعن البشرية لتنعم بأمنه ورعايته سبحانه، وفي تقديرنا سوف يتحول الوضع للأحسن متى ما تم إنتاج لقاح ومضادات لهذا الفايروس. ولكن ما الذي سينتجه هذا الحدث؟. أعتقد أن الحياة بعد كورونا ليست كما قبله، ستتغير الحياة في كثير من النواحي، ستكون هناك تحولات كبيرة على مستوى أساليب التعليم والعمل، وكثير من أنماط حياتنا، سيتم تفعيل التعليم عن بعد، وكذلك العمل عن بعد، سيتغير نظام التوظيف، سيكون هناك تعاقد مع أفراد ليؤدوا بعض الوظائف التي يمكن تأديتها من المنزل، فستلغى تلك الوظائف من الهياكل الوظيفية للمؤسسات، ستتغير منهجيات كثير من المهن، ستتغير بعض الاجراءات الحكومية الإدارية، سينعكس ذلك على علاقاتنا الاسرية على نحوٍ ما، عندما نعمل من منازلنا، أو تقلل أوقات تواجد أبنائنا في المدارس ليتلقوا التعليم أو بعضًا منه من المنزل، وعلى هذا النحو، هل ستمنح لنا تلك الحياة المتوقعة وقتًا أطول لمتابعة أبنائنا دراسيًا وتربويًا، أو نجلس بين أسرنا فتحقق لنا التقارب بشكل أكبر؟. هذه توقعات لها مؤشرات ومعطيات آخرها التوجيه السامي الذي صدر عن صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى لتطبيق العمل من المنزل للأم العاملة في المؤسسات والهيئات الحكومية، لم يكن هذا التوجيه إلا تماشيًا مع ما تستشرفه القيادة الرشيدة للمستقبل والذي أصبح يهرول نحونا أكثر من ذي قبل مع أزمة كورونا الحالية. وليس ببعيد الموافقة على قرار العمل الحكومي من المنزل بعد إقراره من اللجنة التنسيقية برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء في شهر أكتوبر من العام الماضي 2019م، ويلاحظ من هذا القرار أنه اتخذ قبل أزمة هذا الوباء وقبل أتخاذ الاجراءات التي ترتبت على ظهوره، مما يعني أن سمو ولي العهد والمسؤولين الحكوميين في مملكة البحرين كانت لهم نظرة استشرافية، وهذه الأزمة الطارئة قد سرعت من تطبيق مثل هذه السياسات، وكانت فرصة مواتية لوضعها تحت الاختبارات العملية على أرض الواقع. ومن ناحية أخرى مشروع مدارس المستقبل، وموضوع التعليم عن بعد، كان لهما هنا في البحرين الاسبقية والريادة، وأيضًا كان لها نظرة بعيدة، وهذه الازمة أتت لتفعّله وتسرّع خطاه وتضعه تحت الاختبار الحقيقي. في اعتقادي أن هذه ليست مجرد إجراءات احترازية ستنتهي مع انقشاع هذه الغمة، بل هي قرارات سباقة، تم اتخاذها قبل هذه الأزمة وستستمر بل وسيتم تطويرها لتشكل نهج إداري وحياتي قادم لما بعد كورونا، فلن تكون الحياة كما هي قبله.
مشاركة :