القاهرة: «الخليج» كان أول التجديد في تفسير كتاب الله الكريم مع بداية القرن الثاني الهجري، وكان أول من جدد من المفسرين في هذا القرن هو ابن جرير الطبري، فحاز بذلك لقبين استحقهما، فقد كان بحق «شيخ المفسرين» لجلالة قدره في علم التفسير، وهو كذلك «إمام المفسرين» لسبقه في تقديم منهجه الجديد في تفسير كتاب الله.وكما كان لهذا التفسير أولية زمانية، كان له كذلك أولية موضوعية، فهو لم يقتصر على لون واحد من التفسير، بل اشتمل على ألوان منه، رفعت من شأنه، وجعلت له تلك المنزلة عند العلماء؛ فالطبري رغم اعتماده على التفسير بالمأثور أساساً، جمع إلى جانب الرواية جانب الدراية، واهتم بالقراءات القرآنية أي اهتمام، وكان له اعتناء بعرض وجوه اللغة، فضلا عن آرائه الفقهية واجتهاداته التي أودعها كتابه الشهير.هو محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب، الشهير بالإمام أبو جعفر الطبري، (224 ه-310 ه، 839-923م). ولد في طبرستان في مدينة آمل، سنة 224 هجرية، وتربى في أحضان والده الذي غمره برعايته، وتفرس فيه النباهة والذكاء والرغبة في العلم، فتولى العناية به، ووجهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم، فحرص على إعانته على طلب العلم منذ صباه، ودفعه إلى تحصيله، فما كاد الصبي الصغير يبلغ السن التي تؤهله للتعليم، حتى قدمه والده إلى علماء آمل، وسرعان ما تفتح عقله، وبدت عليه مخايل النبوغ والاجتهاد، حتى قال عن نفسه: «حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة».وأكثر الطبري من الترحال في طلب العلم، ولقي نبلاء الرجال، وقرأ القرآن ببيروت على العباس بن الوليد، ثم ارتحل منها إلى المدينة المنورة، ثم إلى مصر، والري، وخراسان، واستقر في أواخر أمره ببغداد. مؤلفات جمع الطبري بين علوم التفسير، والفقه، والتأريخ، وعرف بميله لعدم التقليد، وإلى جانب إمامته في علم التفسير، فقد كان حجة في التأريخ، واشتهر بكتابيه «تفسير الطبري»، و«تاريخ الطبري»، وإضافة إليهما ألف الطبري في العديد من المصنفات والكتب، منها مثلاً: «التبصير في معالم الدين»، «كتاب آداب النفس الجيدة والأخلاق النفيسة»، والآداب في القضاة والنفوس والمناسك والآثار، وخصص كتاباً لكل أدب منها. وقال عنه الإمام النووي: «أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل الطبري»، فيما قال ابن الأثير: «أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ، وفي تفسيره ما يدل على علم غزير وتحقيق وكان مجتهداً في أحكام الدين لا يقلد أحداً، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله، وآرائه».استطاع الإمام الطبري أن يوظف جملة من علومه في الفقه، واللغة، والدين، والعقائد، ليخرج بتفسيره «جامع البيان في تفسير القرآن»، أو «جامع البيان عن تأويل آي القرآن»، أو «جامع البيان في تأويل القرآن»، المعروف ب «تفسير الطبري» الذي صار مرجعاً إلى اليوم.أملى الطبري كتابه «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» على تلاميذه من سنة 283 إلى سنة 290، ثم قرئ عليه سنة 300. وقدم الطبري لتفسيره بمقدمة علمية حشد فيها جملة من مسائل علوم القرآن، منها: اللغة التي نزل بها والأحرف السبعة، والمعرب، وطرق التفسير، وعنون لها بقوله: (القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن)، وتأويل القرآن بالرأي، وذكر من ترضى روايتهم ومن لا ترضى في التفسير. ثم ذكر القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه، ثم القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب، ثم القول في الاستعاذة، ثم القول في البسملة، ثم ابتدأ التفسير بسورة الفاتحة، حتى ختم تفسيره بسورة الناس. كتاب الجامع وكتابه الجامع هو أشهر الكتب الإسلامية المختصة بعلم تفسير القرآن الكريم عند أهل السنة والجماعة، ويعده البعض المرجع الأول للتفسير بالمأثور، فقد استقر منهجه في التفسير على أن يذكر الآية من القرآن، ثم يسرد أقوال الصحابة والتابعين في تفسيرها بأسانيدها، ثم يورد بعد ذلك روايات أخرى متفاوتة الدرجة في الثقة والقوة في الآية كلها، أو في بعض أجزائها، بناء على خلاف في القراءة أو اختلاف في التأويل، ثم يعقب على كل ذلك بالترجيح بين الروايات واختيار أولاها بالتقدمة، وأحقها بالإيثار، ثم ينتقل إلى آية أخرى فينهج النهج نفسه: عارضاً، ثم ناقداً، ثم مرجحاً.ويهتم بالقراءات المختلفة في كل آية، ويرجح إحداها، ويسرد الأحاديث النبوية بأسانيدها، والأحكام الفقهية، «وهو إذ ينقد أو يرجح يرد النقد أو الترجيح إلى مقاييس تاريخية من حال رجال السند في القوة والضعف، أو إلى مقاييس علمية وفنية: من الاحتكام إلى اللغة التي نزل بها الكتاب، نصوصها وأقوال شعرائها، ومن نقد القراءة وتوثيقها أو تضعيفها، ومن رجوع إلى ما تقرر بين العلماء من أصول العقائد، أو أصول الأحكام أو غيرهما من ضروب المعارف التي أحاط بها ابن جرير، وجمع فيها مادة لم تجتمع لكثير من غيره من كبار علماء عصره».ولا شك في أنه لم يقدر على اتباع هذا المنهج المتكامل إلا لأنه كما قال عنه الخطيب البغدادي: «كان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيها في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، وصحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم».ويعتبر الإمام الطبري من أكثر علماء الإسلام تأليفاً وتصنيفاً، وقال عنه أحمد بن خلكان صاحب وفيات الأعيان: «العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة صادقاً حافظاً رأساً في التفسير إماماً في الفقه والإجماع والاختلاف، علامة في التاريخ وأيام الناس عارفاً بالقراءات وباللغة وغير ذلك».ويقول ياقوت الحموي: «وجدنا في ميراثه من كتبه أكثر من ثمانين جزءاً بخطه الدقيق». الورع والزهد كان الطبري على جانب كبير من الورع والزهد والحذر من الحرام، والبعد عن مواطن الشبه، واجتناب محارم الله تعالى، والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يرده من ريع أرضه وبستانه الذي خلفه له والده، وعرض عليه القضاء فأعرض عنه، وعاش راهباً في محراب العلم والعمل حتى جاءته الوفاة، وتوفي وقت المغرب عشية يوم الأحد 26 من شهر شوال سنة 310 هجرية. وقال ابن كثير: «ناهز الثمانين بخمس سنين، وفي شعر رأسه ولحيته سواد كثير، ودفن في داره»، وقال الخطيب البغدادي وابن عساكر: «اجتمع في جنازته من لا يحصيهم عدداً إلا الله، وصلي على قبره عدة شهور ليلاً ونهاراً، ودفن في أضحى النهار من يوم الاثنين، بعد ذلك اليوم في داره الكائنة برحبة يعقوب ببغداد، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب».
مشاركة :