إذاعة البحرين.. وحكايات من ذاكرة الزمان

  • 4/3/2020
  • 01:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

في عام 1955 وبالتحديد في شهرِ يوليو اُفتتحت إذاعةُ البحرين في احتفالٍ رسمي تحت رعاية صاحب العظمة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة حاكم البحرين، ولقد كانت كلمة الافتتاح التي ألقاها نبراسًا لهذا المشروعِ الكبير، وقد بدأت الإذاعة ومنذ تأسيسها ببث برامجها مدة ساعة ونصف الساعة يوميًّا عدا الجمع والمناسبات والأعياد فكان إرسالها يستغرق ساعتين ونصف الساعة، ثم تطور الإرسال إلى ثلاث ساعات وكان صوتُ البحرين من خلال الإذاعة يصل إلى الأقطارِ المجاورة وكان يَردُ إلى الإذاعة رسائلَ عديدة من الأقطار المجاورة يطلبون فيها زيادة الإرسال وإذاعة الأغاني الشعبية، وبالرغم من محدودية ساعات الإرسال وقوة الإرسال فقد توافد على الإذاعة شخصياتٌ كبيرة وفنانون من كل الأقطار العربية وفي مقدمتهم مصر.مع مرورِ الوقت تضاعفت ساعاتُ الإرسالِ واستطاعت هذه الإذاعةُ تقديم العديد من البرامج ومنها على سبيل المثال لا الحصر «الفن» من تقديم الأستاذ أحمد كمال، «أولادنا أكبادنا» للأستاذ مصطفى حجيجة، «مع الناس» للأستاذ مصطفى جعفر، «شخصية الأسبوع» للأستاذ محمود بهلول، «قصة الأسبوع» أحمد يتيم، «ركن الأطفال» عتيق سعيد، «الزاوية الدينية» ياسين الشريف ولقد استعانت الإذاعة بالبعثة المصرية من مدرسين وتربويين في تقديم العديد من البرامج ومنهم الأستاذ عبدالمنعم أبو سيف. ونظرًا إلى ارتباطي بالإذاعة من خلال تزويدي لها بالمسلسلات والأغاني والبرامج والحفلات لأم كلثوم وعبد الحليم وفريد وغيرهم من مطربي الزمن الجميل من خلال ما يقدم في حفلات أضواء المدينة إذ كنت أقوم بتسجيل تلك المواد الإذاعية من إذاعة القاهرة وصوت العرب، كما كنت أوافي الإذاعة بكل جديد يُذاع من إذاعة القاهرة وصوت العرب أولا بأول. لقد شاركت من خلال حضوري الإذاعة وحبي لها كتابة فوازير رمضان والتي كانت تُعرف في الماضي بـ«مسابقة رمضان» وقد قدمها الإذاعي المتميز حسن سلمان كمال واختار لها مقدمة أغنية أحمد قاسم «من عيونك» وقد رصد لهذه المسابقة آنذاك 30 دينارا للجائزة الأولى و15 دينارا للجائزة الثانية و10 دنانير للجائزة الثالثة بالإضافة إلى جوائز عينية أخرى، كان الأستاذ إبراهيم كانو والذي كان يشغل مدير الإذاعة من الشخصيات الممتازة وقد أعطى الإذاعة أكثر مما كان يُتوقع منه وكان يملك صوتًا وأداء وتقديمًا لكل البرامج والمواد الإذاعية تفوق الوصف وكان من خيرة مقدمي نشرات الأخبار لدرجة أنه كانت تسند إليه إذاعة أهم الأخبار المحلية ومن بين من التقيتُ بهم في هذا الصرح الإعلامي كلٌّ من الأساتذة أحمد سيلمان وسعيد الهندي وعلى محمد تقي، أحمد يتيم، عبدالرحمن عبدالله، يوسف مطر، ومن أهم البرامج التي كانت تُقدم في إذاعة البحرين من أعمدة الصحف «صحافتنا في أسبوع»، عالم الرياضة، من كنوز الشعر، آفاق عالمية، ظمأ الأوتار، حماة الوطن، البحرين في أسبوع.ومن الأصوات النسائية التي انطلقت من إذاعة البحرين غالية إسماعيل العريض ونزيهة رضوى وعائشة عبداللطيف وبدرية عبداللطيف إذ شارك بعضهن في عديد من البرامج الإخبارية والمنوعات والأحاديث والتمثيليات وبعضهن شاركن في قراءة الأخبار. وأختتم حديثي عن الإذاعة منذ أن تعاملت معها في بداية الستينيات وعلى مدى عشرين عاما هذه الذكريات التي لا تُنسى مع إذاعة البحرين. للماضي ذكرياته وله أيضا ساعاته الحلوة وأهم ما فيه: كيف نحافظُ على هذه الذكريات حتى نستعيدها اليوم بعد أن مرت عليها سنوات طوال؟ ولكن تبقى هذه الذكريات لمن عاشها ذات قيمة ومعان عدة قد يعجز الإنسان عن سردها للجيل الحاضر، ومن هنا لا بد أن نعرف القارئ كيف كانت هذه الذكريات مقارنة بالحاضر؟ والحقيقة أن لكل زمان مذاقَه وبساطته وسويعاته الجميلة ومن هذا المنطلق أحب أن أعرف القارئ كيف كانت البداية مع الإذاعة، وقبل البداية لا بد من كلمة حق، فأنا عاشق للإذاعة ولا أخص هنا إذاعة معينة، فالإذاعة بالنسبة إليَّ هي اللحن المميز.بدأت علاقتي بالإذاعة وأنا طالبٌ بالمدرسة والحديث هنا يدور حول إذاعة البحرين إذ كنت أحرص وبصورة دائمة على الاستماع إلى إذاعة البحرين ووقتها كانت هناك محطتان إذاعيتان هما «الشرق الأدنى للإذاعة العربية» ومقرها قبرص ولديها مكاتب في القاهرة ولبنان وانتهى بثها بمجرد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م وإذاعة لندن التي يبدأ إرسالها مبكرا وكنت أحرص بصورةٍ دائمة على شراء مجلة «الإذاعة المصرية» وحين أتصفحها وأتمعن في برامج الإذاعة المصرية وصوت العرب وإذاعة الشعب وغيرها من الإذاعات التي كانت تملأ سماء القاهرة وكان ذلك في بداية الستينيات كنت أتمنى الحصول على كل ما يُذاع من تلك الإذاعات من أغانٍ ولقاءات فنية وسياسية وبرامج غنائية وتلاوات للقران الكريم ولا سيما ما يُذاع من المساجد وعلى الهواء مباشرة في ليالي رمضان المبارك لأحسن قارئي القران كنت توَّاقا لتسجيل هذه التلاوات من القران الكريم علما بأن إرسال إذاعة القران على الموجة المتوسطة كان ضعيفا بعكس إذاعة صوت العرب، ومن خلالها بدأت أزود إذاعة البحرين بالأغاني والبرامج والمسلسلات وكان إبراهيم كانو مدير الإذاعة آنذاك رحمه الله على اتصال دائم بي وكان يطلب مني تسجيل أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش ونور الهدى لدرجة أنه اقترح علي إنشاء موجة متوسطة متخصصة لإذاعة الأغاني والدعايات التجارية فقط ومعروف لدى الجميع بأن هذا العمل يحتاج إلى إجراءات وموافقة رسمية لذا ظل هذا الطلب مقترحًا فقط. اقترح الزميل أحمد سليمان على المسؤولين في الإذاعة تزويدي بجهاز راديو وضع هوائي في بيتي حتى أتمكن من تسجيل أي مادةٍ إذاعية بوضوح لإعداد برنامج كان ينوي تقديمه باسم «صيد الأسبوع» حتى يتم تزويد الإذاعة بتسجيلات أكثر وضوحا ونقاوة في الصوت ولعدم توفر الإمكانيات لم يتم هذا المشروع الصغير وفائدته الكبيرة. كنت أذهب إلى الإذاعة كل مساء وفي أيام العطل أذهب في الصباح لتسجيل ما لدي من مواد إذاعية إذ يكون الأستوديو أكثر تهيئة.كانت الإذاعة تضم نخبة من العاملين من أمثال: أحمد يتيم، عبدالرحمن عبدالله وعلي تقي، حسن كمال، سعيد الهندي، أحمد سليمان، يوسف مطر، يتقدمهم الأستاذ إبراهيم كانو وبعد ذلك تلاهم فوجٌ آخر من الإخوة والأخوات سعيد الحمد بدرية عبداللطيف، عبدالواحد درويش، أمينة الشملان وكان الإرسال في بداية البث ساعة ونصف الساعة في الفترة المسائية ثم فترة صباحية اقتصرت على يوم الجمعة فقط وكان برنامج الإرسال يتضمن القران الكريم وحديثا دينيا أو اجتماعيا أو ركن الطب، وشخصية الأسبوع ثم أُضيفت مادةُ الأخبار وكان أساتذة البعثة المصرية من مدرسي المرحلة الثانوية يقدمون برامج مختلفة وهادفة ثم تضاعف الإرسال وقوة البث على موجة متوسطة تغطي منطقة البحرين فقط وتصل أحيانا إلى المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية وحينها كانت تربط العاملين في الإذاعة المحبة والأخوة والتعاون الصادق، ثم عمدت الإذاعة إلى تقوية بثها وزيادة ساعات إرسالها لعدد من الساعات واستطاعت تقديم أفضل البرامج لدرجة أن معدي البرامج لم يكونوا يجدون متسعا من الوقت لتسجيل برامجهم لقلة الإمكانيات. إذ كانت الإذاعة تعتمد على أستوديو واحد إلا أن روح التعاون كان يدفعهم إلى تقديم المزيد لهذا الصرح الإعلامي، ولابد هنا من ذكر شيء مهم وهو أنه لم تكن هناك مكاتبٌ أو طاولات خاصة لهذا الموظف أو ذاك وكان الجميع يستخدمون أيَّ طاولةٍ أو كرسي فارغ لكتابة ما يجول في خاطرهم من قصة أو برنامج أو إعداد نشرة الأخبار، وعلى ذكر الأخبار فقد كان أخي محمود يعد نشرة الأخبار بخط يده من «إذاعة لندن» أو «الشرق الأدنى» وعندما يسافر أخي كنت أنا أقوم بهذه المهمة فقد كانت ظروف العمل في تلك الفترة بسيطة وكان الجميع ملتزما بالدوام الرسمي ونادرا ما تجد موظفا أو عاملا يتأخر عن الحضور إذ كان العمل يجمعهم وكانوا في سباق والكل يريد أن يقدم ما هو أحسن حتى يبدع فيه ويظهر أمام زملائه بأنه يحب هذا الصرح الإعلامي كما يحب بيته وأسرته، كما أنه لم تكن هناك مشكلات ولا حتى صعوبات جانبية إلا في مسألة المواصلات فقط إذ إن غالبية الموظفين والمذيعين لم يكونوا يملكون سيارات خاصة بهم. وكانت الوسيلة الوحيدة لنقلهم إلى الإذاعة والعودة بهم إلى بيوتهم هي «باص الإذاعة» الوحيد.ومن الطرائف التي صادفتني في الإذاعة أن أحمد كمال كان يقدم برنامجا تاريخيا، وهذا البرنامج يعتمد على الإلقاء فقط، وفي ذلك الوقت كانت الإذاعة تفتقد إلى المؤثرات الصوتية. وكنت حينها في الإذاعة، فإذا بالأخ أحمد كمال يطلب وقف البرنامج ويشير إليَّ بيده من خلف زجاجة الأستوديو طالبا دخولي الأستوديو، فلما ذهبت إليه طلب مني أن أمسك بشيء يشبه إلى حد ما السيف «حديدة». وقال ما عليك إلا أن تضرب بها هذا الكرسي الحديدي الذي أمامك. وكانت مدة البرنامج 45 دقيقة. وفعلا تم ذلك والقصد منه هو أن يظهر في التسجيل صوتٌ يشبه «معركة بالسيوف» وعندما انتهى التسجيل استمعنا إلى هذا البرنامج قبل إذاعته وكأننا نستمع إلى صوت «معركة فعلية بالسيوف».وهذه طرفة أخرى فقد تم ابتعاث يوسف مطر إلى إذاعة لندن حتى يكون ملما بكيفية إذاعة نشرة الأخبار والربط بين البرامج وعندما عاد إلى البحرين كان من الطبيعي أن يكون مكانه إذاعة البحرين، وكان يستعد لتقديم الربط لأحد البرامج وبدلا من أن يقول: «هنا البحرين» قال: «هنا لندن» ثم تدارك ذلك بالاعتذار.والحديث عن الإذاعة في بدايتها، وحتى نهاية الستينيات فيه الكثيرُ من الذكريات فقد كنت أزودُ الإذاعةَ بالمسلسلات. وكنت أول من زود الإذاعة بمسلسل «عنترة». وعلى ذكر هذا المسلسل فقد كنت في القاهرة عام 1966م وكان معي جهاز راديو ومسجل تمكنت من خلاله تسجيل هذا المسلسل. إلا أن الحلقة الأخيرة رقم (30) لم تتم إذاعتها بسبب نقل الإذاعة مباراة في كرة القدم. وبطريقتي الخاصة زرت مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري، تعرفت هناك على زميل يعمل في الإذاعة «لا أذكر إلا اسمه الأول عباس». ودار حديث بيني وبينه بخصوص الأغاني وحبي لها وكذلك متابعتي كل المسلسلات الإذاعية. إلى أن تحدثت معه عن مسلسل (عنترة). وبأنني لم أتمكن من معرفة نهاية المسلسل لعدم إذاعة الحلقة الأخيرة. فوعدني بتسجيلها. وكان صادقا في وعده إذ إن الإذاعة قد بدأت فعلا بإذاعة المسلسل، ولم يتبق على موعد الحلقة الأخيرة إلا عدة حلقات. كما زودت الإذاعة بحفلة لأم كلثوم لأغنية «غني لي شويه شويه». وكان للإذاعة أيضا سبقٌ في تقديم أغنيتين للموسيقار محمد عبدالوهاب «خي» و«فين طريقك فين» حيث أذيعت هاتان الأغنيتان من إذاعة القاهرة ليلة الجمعة وأذاعتهما إذاعة البحرين ليلة السبت. ذلك أنني تسلمت تسجيلا لهما في اليوم التالي لإذاعتهما من الإذاعة المصرية. وكانت مفاجأة سارة للأستاذ إبراهيم كانو رحمه الله الذي بعث إلي بسيارة الإذاعة حال الانتهاء من الاتصال به هاتفيا وأذكر أنني تسلمت عن هاتين الأغنيتين «15 دينارا» كمكافأة.وبعد أن امتلأ جهاز الراديو بمحطات ما يسمى ((FM أصبحت جميع المحطات منسية، وهذا رأيي الشخصي إذ طغت تلك الإذاعات بالأغاني الوقتية على الإذاعات الأصلية. ويبقى أن أنوه بأن هناك برنامجا واحدا تقدمه إذاعة البحرين فيه الكثير من المعاني والذي يقدمه الأخ سعيد الحمد وهو «لقاءات لذاكرة الوطن»؛ ففيه يمس المستمع بنفحات الماضي وذكرياته الحلوة.وكان من أمنياتي أن تبقى إذاعة البحرين صرحا إعلاميا ناطقا بكل كلمة صادقة ومسموعة في جميع أرجاء العالم. حتى تكون إذاعة البحرين دائما قريبة من شقيقاتها الإذاعات العربية. 

مشاركة :