مشاهد / براءة... صلاح عبدالصبور | ثقافة

  • 6/16/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عندما أجريت حواري الطويل مع الدكتور لويس عوض... بعد حصوله على جائزة الدولة التقديرية في مكتبه بالأهرام... لاحظت عليه محاولة تجنب الحديث عن الموتى. قال لي عندما أُعلن رأيي في إنسان ليس على قيد الحياة. فإن الحذر واجب. لكن ليس من حق أي إنسان أن يقف فوق مقابر الموتى ليُعلن رأيه فيهم. وما لم أقله في حياة أي إنسان عليّ أن أتردد كثيرا جدّا عندما أقوله بعد رحيله عن هذا العالم. كانت في أعماق لويس عوض صعيدية نادرة. حافظ عليها رغم حياته في القاهرة وسنواته خارج مصر التي عاشها في لندن. وكان يعتبر أن للموت حرمة تعلو أي حرمة أخرى. وحتى عندما كتب كتابه الشهير: «أوراق العمر». ذكر عبارة قريبة مما قاله لي عن فكرة التجول بين قبور الموتى بآراء لم يسمعوها في حياتهم. لسبب بسيط أن أحدا منهم لن يرد ظلما ولن يوضح موقفا ولن يضيف أي معلومات جديدة. قد تجعل الصورة متكاملة. تذكرت ما قاله لي لويس عوض وأنا أقرأ مقالا لأحد الكتاب عن صلاح عبدالصبور، وعنوانه: «مراجعة ضرورية في شاعر مات في حب السلطة... صلاح عبدالصبور زمن مفقود بين زمنين». وأعترف أنني ما كنت أحب أن أعيش حتى أقرأ اتهاما لصلاح عبدالصبور بسقوطه في هاوية الخيانة الوطنية. وصلاح عبدالصبور الذي تمر أكثر من ثلاثين عاما على رحيله المأسوي عن دنيانا. وقد تذكره من ينبشون في قبور الموتى من خلال واقعة واحدة، وهي مشاركة إسرائيل في معرض القاهرة الدولي سنة 1981. مستندا في ذلك، لشهادة نشرت بالصدفة أخيرا لسفير أسبق في الخارجية المصرية. ورغم أن الرجل يكتب كتابه بلغة أقرب لتقارير الديبلوماسيين. دقيقة وواضحة ومحددة. بعيدة تماما عن الطرطشة العاطفية والمحسنات البديعية، واستعراض العضلات اللغوية، إلا أنه في صفحتين من كتابه وبالصدفة وحدها، أبرأ ذمة صلاح عبدالصبور تماما ونهائيا من مشاركة العدو الإسرائيلي في معرض القاهرة الدولي للكتاب. والكتاب أصدرته الهيئة المصرية العامة للكتاب، وعنوانه: «قطوف من الذاكرة التاريخية»... للسفير صلاح شعراوي. وفي الكتاب الكثير مما كنت أحب التوقف أمامه، خصوصا الطريقة التي قبلت بها مصر وقف إطلاق النار في حرب أكتوبر 1973، وكيف عرف العاملون بمطبخ صنع القرار السياسي والعسكري بالموقف المصري. لكني فقط أتوقف أمام ما كتبه السفير صلاح شعراوي عن مشاركة إسرائيل في معرض الكتاب. وعنوان الفصل: «مواقف مع الجانب الإسرائيلي». وفي داخل الفصل جزء يحمل عنوان: «إسرائيل ومعرض الكتاب سنة 1981». كتب فيه: في يناير 1981 تلقيت مكالمة من القائم بالأعمال الإسرائيلي يطلب فيها مقابلة عاجلة ومهمة، وذلك بناءً على تعليمات من المستر بيجين. وفي خلال ساعة حضر لمكتبي وأخبرني بأن سفيره في إجازة، وأنه سيصل القاهرة الليلة بناء على تعليمات المستر بيجين رئيس الوزراء. وفي الوقت نفسه، يطلب تحديد موعد للسفير في اليوم التالي مع السيد وزير الخارجية. وأكمل حديثه بأن سبب هذه التعليمات هو الاحتجاج على رفض مصر لطلب إسرائيل في الاشتراك في معرض الكتاب. أبلغت السيد الوزير كمال حسن علي، بمحتوى ما سمعته، فحدد موعدا لمقابلة السفير في اليوم التالي في تمام الواحدة ظهرا في مبنى وزارة الخارجية بالجيزة. وطلب مني الاتصال بالسيد صلاح عبدالصبور رئيس الهيئة العامة للكتاب والمشرف على المعرض... لمعرفة جوانب الموضوع قمت بمقابلة السيد عبدالصبور، فذكر لي أنه لم يرفض اشتراك إسرائيل ولكنها هي التي تأخرت في الرد بالاشتراك بأحد الأجنحة المخصصة للدول في الموعد المحدد لذلك، وأنه لو استثناها فسيغضب بعض الدول التي تم رفضها لتأخرها في الرد. أجاب ان هناك منفذا آخر لاشتراك إسرائيل في المعرض، وذلك الاشتراك عن طريق دور النشر. ثم أضاف انه حمد ربه لعدم وجود حجية قانونية لاشتراك إسرائيل لأن هذا سيُعرّض المعرض لمشاكل عديدة مع الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية والتي ستشترك في المعرض لأول مرة، وأنه يخشى أن يكون المعرض ميدانا لصراع «عربي - إسرائيلي». عدت للوزارة وأخبرت السيد الوزير بمحتوى المقابلة. وفي اليوم التالي تمت المقابلة مع السفير الإسرائيلي، وأخذ الوزير يدافع بقوة عن موقف مصر، بالإضافة إلى أن الأمن له صوت مسموع مؤثر في مثل هذه المواضيع. لكن لم تكد تمضي دقائق على الساعة الواحدة، حتى أخبرني قسم الاستماع في الوزارة، بأن راديو إسرائيل أعلن عن موافقة الرئيس السادات على اشتراك إسرائيل في المعرض. أسرعت بإفادة السيد الوزير، الذي استطاع بلباقة أن يوجد مخرجا للهجته وحججه الأولى بأن وزارة الخارجية ستسعى بقدر الإمكان على إقناع جهات الأمن بالموافقة على اشتراكهم. اتصلت بالسيد مدير مكتب وزير الإعلام عسى أن يفيدني عما حدث من تطورات أدت إلى تغيير موقفنا. أمهلني بعض الوقت، ثم اتصل بي قائلاً بأن السيد أنيس منصور اتصل بالسيد الرئيس وحصل منه على الموافقة. ولما أردت التأكد شخصيّا من السيد أنيس منصور حصلت على رقم تلفون سيارته، واتصلت به عما إذا كان خبر الاشتراك صحيحا. أجاب بأن بعض الكتاب الإسرائيليين اتصلوا به والذين أبدوا دهشتهم من موقف مصر رغم وجود معاهدة بينهما، وأنه أي السيد منصور، لا يرى ما يمنع من التجارب مع رغبة هؤلاء الكتاب ومن ثم اتصل بالسيد الرئيس وأخذ موافقته. وفي يوم الافتتاح، حدثت مصادمات بين المتظاهرين والفلسطينيين وقوات الأمن التي كانت تقوم بحراسة جناح إسرائيل، وتحققت مخاوف صلاح عبدالصبور. وأود أن أضيف، انه قد نشر في إحدى الصحف اليومية بمناسبة افتتاح معرض الكتاب في هذا العام، أن السيد عبدالصبور قد تعرض لهجوم ومقاطعة. بعض الأدباء تصوروا أنه كان المسؤول عن اشتراك إسرائيل في المعرض. وبكل أمانة أبرئ المرحوم السيد عبدالصبور من هذه التهمة. بعد هذه الشهادة الدامغة المكتوبة من قلب الحدث، يكتبها من يمكن أن نصفه بأنه شاهد ملك، أطلب من قارئ هذا الكلام، أن يتوقف فقط أمام الاحتجاج الإسرائيلي على رفض صلاح عبدالصبور مشاركة إسرائيل في المعرض. ثم الالتفاف على القرار واستصدار قرار جديد من الرئيس السادات شخصيا. ولأننا نكتب كلاما قد يوصف في يوم من الأيام بأنه تاريخي.. كنت أتمنى وأحلم لو أن الأستاذ أنيس منصور خرج عن صمته في حياته وقبل رحيله عن عالمنا في هذه النقطة وأفادنا حتى تكتمل العبارة. ونصل إلى الخبر اليقين في هذه المسألة، ونغلق باب الاجتهادات وتوزيع الاتهامات بلا دليل، لكن أنيس منصور مضى وأصبح من الأموات قبل أن يقدم شهادته في هذه المسألة المهمة، لكن الأكثر أهمية شهادة مسؤول الخارجية عن الواقعة. صلاح عبدالصبور بريء من تهمة مشاركة العدو الإسرائيلي في معرض الكتاب أيها السادة... هل وصلتكم الرسالة؟

مشاركة :