كان محور الصراع الفكري حول مضمون الحكم أو النظام السياسي العربي-الإسلامي في مطلع القرن العشرين اختلافا حول تحديد مصدر السلطات جميعها، هل هو بشري أم هو إلهي؟ وهل هو خلافة في الأرض أو تفويض وشراكة وتداول؟؟؟؟. ففيم كان بعض المفكرين يعتبرون أن مصدر السلطات جميعها ديني-فقهي (ولاية الفقيه وخلافة سياسية -دينية) وهذا الاتجاه لم يكن يهتم بما سببته الخلافة للحضارة العربية الإسلامية من كوارث، وما خلقته من إشكاليات لا محدودة، ولذلك فصل أصحاب هذا التيار بين التصور والتاريخ، فيما رأى آخرون أن مصدر السلطة دنيوي، وأن المسألة تعود في النهاية إلى العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. وهؤلاء كانوا يدعون إلى إلغاء الخلافة، بينما ارتأت المجموعة الثالثة -وهي المجموعة التي يطلق عليها مسمى اللائكية (هي فصل الدين عن الدولة) أن السلطة مصدرها الشعب.. وأن الدولة يجب ان تكون مدنية تتأسس على نظام مدني من العلاقات التي تقوم على السلام والتسامح وقبول الآخر والمساواة في الحقوق والواجبات، وأن قيم الدولة المدنية تشكل ما يطلق عليه الثقافة المدنية، وهى ثقافة تتأسس على مبدأ الاتفاق على احترام القانون الذي يشكل بنية الحياة اليومية للناس.. وقد كان هذا الجدل بتياراته المختلفة مسايراً لظهور القوميات على أنقاض الرابطة الدينية، ليس في العالم الإسلامي فقط، بل في كافة أنحاء العالم الجديد. ومازالت أصداء هذه المعركة متواصلة إلى اليوم وان خفت حدتها-رغم استقلال الدولة العربية والإسلامية وإنشائها نظماً سياسية جديدة على شاكلة النمط الغربي-في الشكل على الأقل-فالإسلاميون مازالوا يحنون حنيناً ميثولوجيا إلى الخلافة، ويتصورون أنها حققت في الماضي العدالة والنظام والمساواة ولذلك يرون الحاجة إلى استعادتها وإن طالت الموانع وتعددت، وهي رؤية لا تاريخية ومثالية، تنظر إلى التاريخ نظرة تقديس، تغفل عن رؤية التفاصيل والحقائق كما هي. فيم يرى الآخرون أن الخلافة كنمط للحكم قد انتهت ولم تعد أمرا ممكن التحقيق على الصعيد الواقعي، وان المطلوب هو تعزيز النظم الحديثة القائمة على الديمقراطية والمشاركة السياسية والفصل بين السلطات والمحاسبة.. إن الرؤية التقليدية غير قادرة على إعادة إنتاج فكر إبداعي جديد، لأنها لا تسمح بإعادة نظم الحوادث التاريخية وتحليلها من بشكل موضوعي إلا في الحدود التي لا تمس حقائق الإيمانية والمشاعر والأماني الدينية والحقائق المذهبية، في حين أن النقد التاريخي الموضوعي لا يؤمن بأي تحديد أو مراقبة للفعل الموضوعي خلال تحليله للحقائق ومقاربتها للتثبت منها وفقا للنظر الموضوعي المجرد كما جرت بالفعل في كل الظروف ودون التحكم العاطفي والديني أو المذهبي أو الطائفي. لقد أحدثت (اللائكية) فرقعة فكرية وهزة جديدة فصلت الواقع العربي عن الحلم العربي باستعادة الخلافة، ولهذا بحث العرب عن حلم جديد يستعيضون به عن الأول، وهو الرابطة العربية أو الوحدة العربية أو الدولة العربية في بعدها المثالي كحلم مطلق، ولكن المصيبة أن النظم العلمانية اللائكية التي استوردها العرب من الغرب تحولت، في الغالب إلى نظم جوفاء فارغة من كل محتوى، ومثلما تحولت الخلافة إلى مجرد حلم وشعار مفرع من كل محتوى تتشبث به الطبقات المنهارة في المجتمع التقليدي، فإن النظام العلماني المستورد ما يزال أجوفا مفرغا من المضمون. كما أدى هذا كله إلى وجود دعوة راديكالية تدعو إلى تغيير جذري في المجتمع لتحقيق نظام سياسي لا يقوم على إحياء القديم وتطويره وإنما على تجاوز القديم، وهذا الاتجاه يؤمن بدور الثورة الثقافية في إحداث تحول تاريخي في حياة الفكر العربي وحياه الإنسان العربي.. إن الخطأ الجسيم في كل الأحوال، أن المفكرين العرب الذين انشغلوا بموضوع النظم السياسية قد وقعوا أسرى الاعتقاد بأن السلطة السياسة هي العصا السحرية التي تغير المجتمع والاقتصاد والحقيقة غير ذلك، فكم هي عدد المجموعات والأحزاب والسياسة والعسكرية التي امتلكت زمام السلطة في أكثر من بلد عربي ولكنها لم تقو على فعل شيء، رغم حديثها عن (الإصلاح) و(الإنقاذ) و(النهضة) و(التصحيح) وذلك لأن المسألة في جوهرها مركبة من أكثر من معطى، وليست سياسية فقط. بل هي اجتماعية اقتصادية ثقافية داخلية وخارجية في ذات الوقت، ثم هي بعد ذلك سياسية وليس العكس، فهنالك تكامل بين هذه النظم لتحقيق نهضته حقيقية متكاملة. ولكن يبقى السؤال الأخير: هل أن الإشكال الحقيقي هو أن الإسلام يقتضي وجود خلافة أولاً يقتضيها؟ الجواب في تقديري أن جوهر المسألة أن المنطقة العربية كانت مع نهاية القرن التاسع عشر قد بلغت منتهى الضعف والتخلف الاجتماعي والسياسي، وقد بلغ هذا التخلف مبلغاً جعل من المتعذر أن تستمر زمناً أطول في منأى عن مشاريع غزو جيرانها لها، ولقد بلغ هؤلاء الجيران الأوروبيون أوج ازدهارهم الاقتصادي والسياسي ولذلك كان لابد من البدء بتجديد الشروط الجديدة لممارسة الفكر العربي دوراً جديداً إزاء الوقائع الجديدة في مواجهة الحياة الحديثة التي باتت تصدمه بقسوة، ولعل موضوع الخلافة كان واحدا من الأفكار المحورية التي دارت حولها معركة- مازالت لم تحسم بشكل نظري ومعرفي إلى الآن- بالرغم من انتصار قيم الحداثة على المستوى الرسمي. همس الدول الإسلامية في مختلف مراحلها التاريخية عرفت الفصل بين الدولة والدين، وإن بدرجات متفاوتة، لكنها لم تكن دولاً علمانية. وكان هذا الفصل طبيعياً، لاختلاف الدين عن الدولة، ولاختلاف المتدين عن الدين نفسه، ولأن الدين، باعتباره النص المنزل، يختلف عن قراءة هذا النص وتفسيره وتطبيقه، أي أن النص غير قابل لقراءة واحدة محل إجماع، بل هو بطبيعته خاضع لقراءات وتفاسير متعددة ومختلفة باختلاف الجماعة واختلاف الزمان والمكان، ولذلك دائماً ما تنقسم الأديان بعد مرحلة التأسيس إلى تيارات عقدية متعددة ومدارس فقهية مختلفة، وتبعاً لذلك تنشأ الطوائف والمذاهب. وهذا على رغم أن جميع هذه التيارات والمدارس تنطلق من مرجع واحد، هو في الحال الإسلامية القرآن في المقام الأول والأساس، ثم السنة النبوية بعد ذلك.
مشاركة :