حرصت الحكومة الكويتية على توفير الكهرباء للدولة منذ العام 1951 عندما اشترت أسهم شركة الكهرباء الأهلية وأسست إدارة الكهرباء العامة. وما زالت الحكومة مستمرة في تطوير قدراتها على توفير وتوزيع الكهرباء من خلال وزارة الكهرباء والماء. ولكن إدارة منظومة الكهرباء في الكويت تعاني من ضعف شديد في مجالات تقليل وتنظيم الطلب على الكهرباء، وعلى الرغم من الجهود المخلصة للجان الترشيد في المؤسسات الحكومية، إلا أنني أكاد أجزم بأن الحكومة لم ولا تمتلك رؤية ترشيدية واضحة وثابتة، خاصة في قطاع المباني السكنية. معهد الكويت للأبحاث العلمية لعب دور المبادر في مساعي ترشيد استهلاك الكهرباء بالمباني في الكويت، حيث أنجز دراسات مكثفة وشاملة - لصالح وزارة الكهرباء والماء - حول تدابير حفظ الطاقة في المباني. فتمكنت الكويت في عام 1983 من إصدار أول «كود» إلزامي في الخليج لحفظ الطاقة في المباني.هذه الدراسات استمرت بعد ذلك لبناء القدرات الوطنية في مجال الترشيد، ولتحسين كفاءة استهلاك الكهرباء في عدد من المباني الحكومية والتجارية والخاصة، فضلا عن تحديث «الكود» في 2010 ثم 2014. الكثير من البحوث النظرية والتطبيقية التي نفذت في المعهد وخارجه، في كليتي الهندسة والبترول والدراسات التكنولوجية وغيرهما، أوصت بتطوير لائحة أسعار الكهرباء في الكويت. حيث اتفق المختصون بأن اللائحة - المطبقة منذ عقود - تعيق الطموحات الترشيدية، إن لم تكن تشجع على الإسراف وترسخ ثقافته، وعلى الرغم من أن مبررات الترشيد تغيرت عبر السنين، إلا أنها كانت وما تزال تزداد في عددها وتتعاظم في درجة الحاجة لها. فبعد أن كان توفير الأموال هو المحرك الأساسي للترشيد، أضيف له لاحقا تحسين الراحة الحرارية داخل المبنى، ثم حماية البيئة ووقاية الصحة العامة. أما اليوم، فالترشيد أصبح ضرورة وطنية وفق المادة (21) من الدستور الكويتي التي جاء فيها أن «الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك الدولة، تقوم على حفظها وحسن استغلالها، بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني». نعم، انتاج الكهرباء في الكويت يتطلب حرق الغاز الطبيعي والنفط الذي يرتكز اقتصادنا على بيعه كمادة خام أو كمشتقات بترولية. من بين أبرز التقارير التي أوصت بانتفاضة ترشيدية في منهجية استهلاكنا للكهرباء، هو الذي أصدره المعهد الملكي للشؤون الدولية والمعروف بمعهد تشاثام هاوس. فقد أصدر المعهد البريطاني في عام 2013 تقريراً بعنوان «إنقاذ النفط والغاز في الخليج» جاء فيه أن دول الخليج العربية تعاني من هدر منظم لمواردها الطبيعية مما يضعف مرونة اقتصادياتها في مواجهة الأزمات، كهبوط أسعار النفط، وتباعا تزيد المخاطر على أمنها الوطني. وأيضا ورد فيه بأن انخفاض أسعار استهلاك الكهرباء من أبرز معوقات الترشيد في دولنا. أعددنا، أنا مع دكتور من معهد الأبحاث، قبل 15 سنة تقريباً، مقترح آلية جديدة لحساب التكلفة السنوية لاستهلاك الكهرباء والماء في المباني السكنية بموجب نظام شرائح عائمة تتغير حدودها سنوياً وفق حالة الطقس في تلك السنة. المقترح راعى حقيقة أن معدل الاستهلاك المثالي في المباني يتأثر بعوامل عدة من بينها المناخ ومساحة البناء وعدد شاغليه. كما يوظف الذكاء الاصطناعي ومجموعة من البرمجيات الرقمية لمعرفة الاستهلاك النموذجي للكهرباء والماء في المنازل. ولكن بعد الانتهاء من إعداده ثم تطبيقه، تبين لنا أنه يعاني من إشكالية تمنع تسويقه، ألا وهي صعوبة تطبيقه من قبل غير المهندس. هناك مؤشرات لوجود رغبة لدى وزارة الكهرباء والماء لتطبيق نظام شرائح بسيط لتعرفة الكهرباء يحافظ على سعر الفلسين للكيلو وات - ساعة لشريحة المقتصدين أو «أصحاب الدخل المحدود» ويزيد التكلفة على شريحة أو شرائح المسرفين. من تجربتنا السابقة، أرى بأن العائق الأول أمام هكذا محاولات هو تخصيص عداد كهرباء واحد لكل منزل في المناطق النموذجية. لذلك فإن بعض هذه البيوت ستسقط ظلماً ضمن شرائح المسرفين تلقائياً لأنها تؤوي أكثر من أسرة (أسرة الأب مع أسر أولاده). وفي المقابل، المسرف الذي يسكن هو وزوجته المبذرة من غير أبنائهم في منزلهم الخاص، قد يصنفون - غفلة - ضمن شريحة المقتصدين. حتى تكون فواتير الكهرباء منصفة ثم مشجعة على الترشيد، يجب أن تراعى العوامل المؤثرة في الاستخدام المناسب للكهرباء - وهي ديناميكية ومتداخلة - وآليات التطبيق التي قد تتطلب تغيير منظومة العدادات وكيفية قراءتها. لذلك أدعو الوزارة إلى الاستعانة بمعهد الأبحاث لتقييم الخيارات المتاحة إقليمياً وعالمياً ثم تحديد الأنسب منها وفق الواقع الكويتي بجميع أبعاده. هكذا دراسة من صميم أهداف إنشاء المعهد ومن مجالات تميزه.. وتجربة إعداد وتحديث «كود» حفظ الطاقة في المباني خير دليل على ذلك. abdnakhi@yahoo.com
مشاركة :