غرقت الثورة السورية في بحر دماء الحالمين بالحرية والكرامة وبإنهاء نظام الرئيس بشار الأسد، وباتت المعارضة السورية أسيرة الواقع المشؤوم الذي فرضته تطورات الأعوام الخمسة الماضية من عمر الثورة نتيجة التدخلات الخارجية وأجندات الأنظمة الإقليمية والدولية، وصارت أزمة سورية في صلب مشهد خطير في المنطقة... حروب مذهبية وطائفية واستنزافٌ لدول تسمح للنظام السوري بإعادة هيكلة أوضاعه والصمود ولو ضمن رقعة يمكن ان تشكّل «دويلته» العلوية. وتوحي الوقائع العسكرية في الفترة الأخيرة ان النظام وحلفاءه يتّجهون إلى التخلي عن استراتيجية خوض المعارك على رقعة منفلشة والاكتفاء بانكفاء مدروس نحو بقعة جغرافية يجري العمل على تحصينها بقوة بالمقاتلين والسلاح (دمشق - حمص - حماه - طرطوس - اللاذقية) لتشكّل «ملاذاً آمناً» لما تبقى من النظام السوري وتضمن له بقاءه ضمن المعادلة السياسية التي سترسم مستقبل سورية. وإزاء هذا الواقع، تبرز مجموعة من الاسئلة بينها، هل صحيح القول اليوم إن سورية ذاهبة إلى تقسيم حتمي؟، وما مؤشرات ذلك؟، وما موقف المعارضة؟، وكيف سيؤثر ذلك داخلياً وخارجياً وما المطلوب منها ومن العواصم المؤثرة إقليمياً ودولياً؟ «الراي» سألت النائب السابق المعارض محمد مأمون الحمصي، وهو نائب مستقلّ فقد عضويته في البرلمان السوري وجُرد من حقوقه المدنية لمواقفه السياسية ضد النظام ودعمه الثورة، فقال: «ما يجري طرْحه من سيناريوات لتقسيم سورية جاء نتيجة ما يقوم به النظام وعدم تحرك الدول من أجل حلّ الأزمة السورية وسكوتها عن جرائمه التي تُرتكب ضد الأطفال وتقطيع الأوصال، فيما العالم يتفرج، وهذا يولد العنف ومشاريع أفكار غير معقولة وغير متوقعة من البعض. إلا أن إرادة الشعب السوري ستقدر في النهاية على نبذ مثل هذه المشاريع والتوحد لمواجهة أخطار من هذا النوع، مهما كان الثمن غالياً. الآن ليس هناك قانون أو محاسبة للنظام لكن ذلك لن يطول وسيُقضى على الوحوش التي تتبادل المصالح وسيكون الشعب السوري موحّداً ومنتصراً». ويجد الحمصي ان الترويج لسيناريوات مرسومة لإقامة دول طائفية في سورية، وتحويل الصراع إلى طائفي، ليس فقط في السياسة «وإنما أيضاً على الصعيد الاجتماعي وسط محاولات لفرْضه على أرض الواقع، ولكن هل هذه الروائح الكريهة التي تفوح من مشاريع التقسيم مفيدة للشعب السوري؟، وهل هي قادرة على أن تصبح أمراً واقعاً؟، فالجهات التي تفرّجت على مأساة الشعب السوري وعلى جرائم النظام من دون أن تحرك ساكناً هي التي تروّج الآن لمشاريع التقسيم الطائفي في سورية، وتبث سموم هذه المخططات». وعن كيفية مواجهة المعارضة لهذه المشاريع المشبوهة، يقول: «المعارضة السورية فاشلة وأثبتت انها ترمي الصعوبات على غيرها، لكن الموضوع بحقيقته هو موضوع موقف الشعب السوري الذي يقرر ماذا يريد. فهو بالطبع يريد مواجهة الظلم ولا يريد نظام الأسد، ويريد الحرية. ومع الأسف فإن المعارضين لا ينظرون إلى ما يريده الشعب السوري بل ينفذون مخططات الآخرين ويصبحون جزءاً منها، والتجربة أثبتت أن المؤتمرات والاجتماعات هنا أو هناك لا تنفع ولا تحل المشكلة، وكان من المفترض بالمعارضة أن تضع أوراق نصف مليون شهيد سوري على الطاولة ولا تقفز فوق دماء هؤلاء وفوق تضحيات الشعب المشرد في المخيمات أو المحاصَر أو الذي يعيش تحت القصف، ومن العار الحديث عن التقسيم في سورية والشعب يموت من الجوع. وفي هذا المناخ اللا إنساني واللا أخلاقي الواضح للنظام السوري، قد يكون نجاح التقسيم احتمالاً ولكن لا بد من مواجهته». ويشدد على أنه «لا يمكن إنقاذ سورية إلا بالعدالة والوحدة الوطنية وإبعاد شبح التعصب الطائفي عن السوريين، إلا أن التدخل الإيراني هو الذي تسبب في إيجاد لغة طائفية جديدة وفي واقع جديد مخطَّط له لضرب التعايش بين السوريين بمختلف مذاهبهم وأعراقهم ومشاربهم. هذا التدخل هو الذي تسبب بإدخال سموم الطائفية إلى الشعب السوري». من جهته يقول الكاتب والمحلل السياسي السوري خليل المقداد «إن ما يجب أن نسأله لأنفسنا هو هل مشروع تقسيم سورية هو نتاج الحرب والأحداث الجارية أم انه أمر مخطَّط له منذ زمن؟». ويجيب: «لا شك أن مسألة التقسيم ليست جديدة. فمنذ اتفاقية سايكس بيكو في العام 1916 وحتى الآن تم صوغ العديد من خطط ومشاريع التقسيم التي بقيت بانتظار الزمان والظروف المناسبة، كمشروع عوديد ينون المعروف بوثيقة كيفونيم في العام 1982 وخرائط برنارد لويس التي صدرت في العام 1992 ومشروع رالف بيترز المسمى حدود الدم في العام 2006 وجيفري غولدبيرغ في العام 2008. إذاً خطط التقسيم حاضرة وموجودة لكن تَغيُّر خريطة الفصائل المسلحة على الأرض وعدم القدرة على التنبؤ بإمكانياتها وخططها جعلهم يعيدون النظر في مشاريع التقسيم، بل إن مطابخ صنع القرار العالمية باتت أحرص من السوريين أنفسهم على عدم التقسيم بل والعمل بدل ذلك على محاولة إنتاج نظام حكم يضمن مصالحهم ويسحب البساط من تحت أقدام الفصائل والتنظيمات الجهادية التي باتت رقماً صعباً في المعادلة الإقليمية. فالتقسيم اليوم ليس من مصلحة أحد لأن نظام الأسد وحلفاؤه لم يعودوا قادرين على حماية وتأمين أي دويلة يفكرون في إنشائها، ونظام الأسد يعتمد اليوم في بقائه على الدعم الإيراني العسكري والمالي إضافة إلى الميليشيات الشيعية القادمة من أفغانستان مرورا بالعراق ولبنان وحتى من اليمن». ويوضح ان «نظام الأسد اليوم لا ينتج أكثر من 17 ألف برميل من النفط بينما تنظيم (داعش) ينتج 80 ألف برميل، وحتى أنابيب الغار التي يحتاجها نظام الأسد لإنتاج الكهرباء باتت تحت مرمى نيران تنظيم (الدولة الاسلامية)، بل إن حقول الغاز نفسها باتت خارجة عن السيطرة أو مهدَّدة بالسقوط في أي لحظة». ويلاحظ ان «مشروع الدولة الكردية هو الوحيد الذي يسير بخطى حثيثة على الأرض في ظل غفلة أو تعامي الجيش الحر والمعارضة عما تقوم به وحدات الحماية الكردية من سياسة ترانسفير وتطهير عرقي بحق القرى والبلدات العربية في الشرق والشمال السوريين، حيث قامت بتهجير عشرات آلاف السوريين العرب وإحراق وتدمير منازلهم خشية عودتهم إليها لاحقاً، لكن هذا المشروع لا يزال يصطدم بتنظيم (الدولة الإسلامية) الذي يسعى بدوره للسيطرة على المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية من سورية. وباختصار يمكننا القول إن هناك مشاريع للتقسيم ليس فقط في سورية بل وفي المنطقة، وهم في سبيل تحقيقه يستخدمون كافة الأدوات والأساليب المتاحة ومنها الترويج لمشروع التقسيم كأمر قائم وخيار لا بدّ منه، وهم يقومون بمحاولة إيهامنا بذلك وعلى ألسنة بني جلدتنا من معارضين وسياسيين وحتى دول لها مصلحة في التقسيم الذي لا يمكن أن يتم. وعلينا النظر إلى قوات الفاطميين الأفغان وباقي الميليشيات الشيعية وقوات نظام الأسد التي أصبحت تفرّ من ساحة المعركة عند أول مواجهة، فهل هؤلاء هم مَن سينجز مشروع التقسيم؟». وفي رأيه أن «تجزئة سورية بهذه الطريقة المقترحة سيسمح للتنظيمات التي تعتبرها تلك الدول إرهابية بالتمدد بل وستكبر قاعدتها الشعبية وسيزداد عدد مقاتليها في الداخل والخارج السوري وسيُدق ناقوس الخطر الذي دُق بالفعل منذ الآن. فالحلّ ليس في منحهم دولة تكون منطلقاً للتمدد. أما الحديث عن التدخل العسكري البري لإنجاز التقسيم فإنه سيُدخِل المنطقة في المجهول ولا سيما أن هناك المئات من الفصائل المسلحة على الأرض والتي قد تتحد لاحقاً ضد أي تدخل عسكري أجنبي». وعن مؤشرات عدم التقسيم، يلمح إلى أن «المشروع توقّف بعد زحْف تنظيم (الدولة الإسلامية) وتَمدُّده في المنطقة، والعمل يجري الآن على محاولة تحجيمه واحتواء خطره. بل العمل على تشتيت السنّة في العراق وسورية وحشدهم لمواجهته كي لا يتعاطفوا مع التنظيم ويشكلوا دولة أمر واقع يصعب التصدي لها لاحقاً، إضافة إلى التواجد القوي لجبهة النصرة وباقي الفصائل الإسلامية كحركة (أحرار الشام) اللتين تشكلان الثقل الرئيسي لجيش الفتح الذي يضم الفصائل الجهادية الإسلامية ذات التوجه الواحد والتي ستواجه أي مشاريع للتقسيم، وكذلك نجاحهم في فرض الاستقرار على المناطق التي سيطروا عليها بالإضافة إلى أنهم يتقدمون ويحررون مناطق جديدة باستمرار، وباتوا ضامنين لوجود قاعدة شعبية مؤيدة لهم. إذاً حالياً وعدا عن المشروع الكردي الذي يُطبخ على نار هادئة، فلا أعتقد بوجود أي مشروع تقسيم في ظل الظروف الراهنة». وعن كيفية انعكاس ذلك على المنطقة يقول: «الفكرة كانت تقضي باستنزاف الجميع على الأرض السورية والسماح لهم بالتقاتل إلى ما لانهاية بشرط ألا يكون هناك غالب أو مغلوب، وصولاً إلى تيئيس الجميع وفرْض ما يرونه مناسباً من حلول، ولعلّ أحدها التقسيم الذي كانوا يظنون أنه لو نجح فسيضمن لإسرائيل أمنها، لكننا نجد أن تطورات الأحداث المتسارعة قد تجاوزت مخطط التقسيم هذا بل على العكس هناك مشروع الدولة الإسلامية الكبرى الذي يسعى إليه تنظيم الدولة وبات يهدد بابتلاع دول بأكملها، إذاً نحن أمام واقع جديد لا يسير وفق ما كانوا يخططون له، وهو واقع توسع لا تقسيم». وحول المطلوب من المعارضة السورية لمنع مخطط تقسيم سورية داخلياً وخارجياً، يجيب: «عدم سقوط نظام الأسد حتى الآن هو ما تَسبّب في كل ما نعيشه من مآسٍ. فلو ساعَدَنا اللاعبون المؤثرون أو حتى سمحوا لنا بإسقاطه منذ البداية لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، ولما عانينا من كل هذا القتل والتهجير والخراب، وكذلك تَشرذُم قوى الثورة والمعارضة الذي أنتجه الاستقطاب العربي والإقليمي والدولي. وأنا أخشى انه لم يعد هناك أي دور لمعارضة فاشلة مخترقة على كافة الأصعدة استهلكت نفسها بولاءات خارجية وصراع على السلطة والمال والمكاسب ولم تعد تحظى بأي قبول أو اعتراف شعبي بها، لأنها منفصلة عن الواقع ولم تكن على مستوى أعظم ثورة عرفها التاريخ الحديث لشعبٍ ضحى بكل ما يملك ونزف الدماء على مدى أكثر من أربعة أعوام. لكن ومع ذلك لو أردنا التحدث عن المطلوب من المعارضة، فيمكنني اختصاره بخيار واحد لا غير ألا وهو قيام الدول المؤثرة بتسهيل عقد مؤتمر وطني شامل لقوى الثورة والمعارضة لا يقصي أو يستثني أحداً، كي يُنتِج قيادة وطنية منتخبة ومعترف بها من الداخل قبل الخارج تستطيع تولي أمور المرحلة الانتقالية. وعلينا ألا ننسى أن غياب أي شكل من أشكال الرقابة والمحاسبة هو ما سمح بالتجاوزات وفتح الباب أمام التصرفات الانفرادية التي قام بها البعض من مهادنات ومصالحات ومبادرات لم تساهم إلا في إطالة عمر النظام وتعميق مأساة الشعب السوري». أما عن المطلوب عربياً ودولياً، فيوضح أن «الأمور باتت متداخلة بطريقة صار معها من الصعب فصل الشأن السوري عن محيطه كالعراق ولبنان. وعليه فالمطلوب اليوم جملة أمور تتمثل بالآتي: الأمر الأهمّ ومفتاح الحل يكمن في كفّ يد إيران عن سورية والمنطقة وتَوقُّفها عن العبث بأمن واستقرار دولنا وإجبارها على سحب الميليشيات الطائفية من سورية، وسحب الاعتراف بنظام الأسد ونزع شرعيته بشكل كامل وعدم التعامل معه، والتوقف عن حالة الاستقطاب التي يمارسها المؤثرون في الشأن السوري، والعمل بدل ذلك على لمّ شملهم وتوحيدهم ودعم الثوار وصولاً إلى إسقاط نظام الأسد المجرم وتحرير سورية من الاحتلال الفارسي، وفرض حظر طيران على النظام وإنشاء مناطق آمنة، وتقديم الدعم الإغاثي بشكل عاجل وعادل، ورفْع الحصار عن المدن والبلدات المحاصَرة بأسرع وقت. ثم ان نظام الأسد هو أساس الشرّ وسبب كل ما حدث ويحدث لوطننا، ومن مصلحة الجميع أن يَسقُط. لكن كلما تأخّر السقوط زادت المعاناة واستعصت المسألة على الحلّ لأنها ستكون دخلت في فصول معقّدة جديدة».
مشاركة :